ثلاثية النظام والإخوان والاحتقان! صلاح الدين حافظ المتأمل في المشهد السياسي المصري هذه الأيام يكتشف أن هناك ثلاثية تحكم حركته وتحدد مساراته الراهنة علي الأقل, ونعني ثلاثية النظام, وجماعة الإخوان المسلمين, وبينهما الاحتقان الذي تلمحه واضحا جليا في كل مكان, وعلي كل وجه. وبرغم أن الاحتقان ليس وليد الصدام الحالي بين النظام والإخوان فقط, لأنه وليد عوامل إضافية أخري, منها السياسي, ومنها الاقتصادي الاجتماعي, ومنها الإعلامي والنفسي والعصبي, فإن صدام القطبين المتنافسين علي مقدمة المشهد المصري, يمثل أضخم مولدات الاحتقان وأشده خطورة, لأنه صدام تكسير عظام, وليس مجرد تنافس أو صراع سياسي فكري, لذلك فالمؤكد أن الأفضل هو العمل علي الخروج سريعا من هذه الثلاثية العصيبة. علي طرفي نقيض يقف الطرفان إذن, برغم كل ملامح ومؤشرات الحوار السري أو اللقاء الغامض المتسرب, فالإخوان, وهم جماعة محظورة قانونيا ناشطة واقعيا, يطرحون أنفسهم علي أنهم البديل الأول والأقوي للحزب الوطني الحاكم وحكومته, بل بديلا للنظام الجمهوري كله, ويضيفون في دعاياتهم أنه لو كان في مصر ديمقراطية حقيقية وانتخابات نظيفة, لوصلوا إلي سلطة الحكم بسهولة بديلا لما هو قائم, بحكم شعبيتهم وتأثيرهم المستمد أساسا من العقيدة الدينية! وفي المقابل يقف النظام الجمهوري في حالة استنفار دائم وصدام مستمر مع جماعة الإخوان, التي عانت كثيرا من الحظر والصدام والاعتقالات حتي فيما قبل ثورة يوليو1952, امتدادا لفترتها, باستثناء فترة الوفاق بين الرئيس السادات والإخوان, والنظام الجمهوري بحكم مبادئه وأسسه التي تبني الدولة المدنية, يرفض من الأساس فكر الإخوان ومخطط بناء الدولة الدينية, لذلك تبدو القبضة الحديدية للنظام الجمهوري, هي وسيلة التعامل والمواجهة الأساسية مع جماعة الإخوان, قائلا: إنه لو تهاوت قبضته لقفز الإخوان بكل تراثهم ومبادئهم إلي الحكم. ومن الخطورة اختصار المشهد السياسي المصري كله في هذه الثنائية المتصارعة, النظام والإخوان, لأن انفرادهما البادي هذه الأيام يساعد في إذكاء التوتر والاحتقان, ويبشر بالفوضي, سواء تلك المصنعة داخليا, أو الفوضي الخلاقة المستوردة من الخارج, خصوصا أن السياسة الأمريكية البراجماتية والانتهازية سعت وتسعي لاستغلال هذا الصدام بين النظام والإخوان لمصلحة أهدافها. فهل صحيح أن الساحة السياسية قد أجدبت وخلت إلا من ثنائية النظام والإخوان؟ وهل صحيح أنهما وحدهما الأكثر أهلية وأحقية في التنافس علي الحكم والقيادة دون سواهما؟ وهل صحيح أن كل القوي السياسية والتيارات المدنية الديمقراطية في هذا المجتمع المتلاطم بملايينه ومفكريه وسياسييه, قد أصابها سوس التدهور والانقراض, ولم يبق إلا الثنائية المذكورة لأنها وحدها وبطرفيها هي السليمة والصالحة والمؤهلة!! *** نشك في ذلك, فلا النظام والإخوان خاليان من عوامل الضعف, ولا هما كاملان مكملان بالمسطرة, وظني أنهما معا يعانيان أزمة فكرية, فعلي سبيل المثال الحزب الوطني حزب الحكومة والدولة والنظام, يعاني أزمة الاختيار الديمقراطي الحقيقي بعيدا عن التشبث بالسلطة, والانفراد بالحكم, ورفض تداول المناصب, بينما تعاني جماعة الإخوان منذ تأسيسها علي يد مرشدها الأول حسن البنا عام1928, من أزمة الهوية, بين الجماعة الدعوية الدينية, والتنظيم أو الحزب السياسي, أي باختصار بين الدولة المدنية الحديثة والدولة الدينية. ونظن أن الطرفين مأزومان من الداخل, حتي لو أنكرا وبالطبع هما ينكران بإصرار, مما يساعد علي تصاعد الاحتقان ليس بينهما فقط, لكن في المجتمع كله, وكل منهما يتحمل الوزر بقدر مسئوليته, خصوصا أن البعض يدفع المشهد السياسي إلي اختصاره في هذين القطبين, وكأن مصر كلها قد خلت إلا منهما فقط. فثمة23 حزبا سياسيا شرعيا آخر إضافة للحزب الوطني, ترفع يافطاتها علي واجهات مقارها وتقول أنا هنا في الساحة, التي لن نتركها للذئب والأسد وحدهما, لكن الحقيقة أن هذه الأحزاب الشرعية لم تستطع أن تقدم حتي الآن بديلا قويا لأي من الإخوان أو الحزب الوطني, ربما باستثناء محاولات ومجادلات أحزاب الوفد, والتجمع, والناصري, والجبهة الديمقراطية, وكلها تسعي للمشاركة في الكعكة, إلا أنها في النهاية لم تقدم فكرا سياسا واجتماعيا يرفعها إلي الصراع مع الوطني والإخوان بتكافؤ وتوازن. وبالموازاة مع ضعف الأحزاب وفشل معظمها, تواري نشاط ومشاركة القوي الجديدة ممثلة في النقابات المهنية والعمالية والطلابية والأكاديمية التي يفترض أنها مولدات الفكر والكوادر والقيادات السياسية, لذلك لا عجب أن يتمكن الحزب الوطني بقوة السلطة والدولة, وأن يتمكن الإخوان بقوة العقيدة والتنظيم والتمويل, من أن يبرزا علي أنهما اللاعبان الوحيدان في المشهد السياسي, والمولدان أيضا للاحتقان السائد! وإن دل ذلك علي شيء فإنه يدل علي فشل مبكر للتعددية السياسية, إن عند قمة السلطة الحاكمة, وإن عند قاعدة العمل الشعبي, في ظل غياب فضيلة الحوار الحر بين التيارات والقوي المتعددة مقابل حضور الخصومة والتربص المتبادل, وهذا كله ليس من مبادئ الديمقراطية في شيء. لقد أخطأ الجميع تلمس الطريق الصحيح في إطار إصلاح ديمقراطي حقيقي, أخطأ الحزب الوطني باعتباره حزب النظام, في عدم إقدامه حتي الآن علي إقرار وترسيخ مبادئ الديمقراطية, وأولها قبول الآخر وحق تداول السلطة وإجراء انتخابات نظيفة, وإطلاق الحريات العامة وفي المقدمة حرية الصحافة والرأي والتعبير, اقتناعا منا بأن ما تم أو يتم في هذه المجالات لايزال يجري في الهوامش وليس في الأصول, بدليل عدم قبوله أو استيعابه لمجرد فكرة أن يصبح غدا في المعارضة, ويتولي غيره الحكم, الذي ينفرد به منذ أكثر من ثلاثين عاما, أو منذ أكثر من خمسين عاما باعتباره امتدادا حقيقيا للاتحاد القومي, وللاتحاد الاشتراكي. وأخطأت الأحزاب الشرعية الأخري لأنها قبلت منذ البداية بولادتها المبتسرة, واستكانت للعيش في حضانة النظام, ولم تطرح بديلا يجذب الجماهير, بل التف بعضها حول إغراءات الحزب الحاكم واستقطاباته, وخضعت في النهاية لمواقفها المتجمدة الراهنة, تحت ضغط حصار الأجهزة وتقييد حركتها الحزبية خارج مقارها!! غير أن أخطاء جماعة الإخوان أفدح, لأنها تؤمن بداية بحتمية الجمع بين الحسنيين, بين الدين والدنيا بين المصحف والسيف, وفي مسار تطور الأحداث, أعلنت في السنوات الأخيرة قبولها بالديمقراطية غطاء واسعا لتكسر من خلاله قيود الحظر القانوني والسياسي والدستوري وفق التعديلات الأخيرة التي تحظر قيام حزب علي أسس دينية, وهو قبول يبدو أنه مؤقت ومرحلي, فشلت الجماعة في إقناع القوي السياسية الأخري بجديتها. وبقدر نجاح جماعة الإخوان المحظورة في الاشتباكات مع الأحزاب المعارضة والحركات الاحتجاجية والنقابات المهنية والعمالية والطلابية, مما أثمر نجاح التحدي الأكبر بنجاح88 نائبا لها في انتخابات2005, يشكلون كتلة المعارضة الرئيسية في البرلمان الحالي, بقدر فشلها حتي الآن في تحديد هويتها, جماعة دينية أو حزبا سياسيا, دولة دينية أم دولة مدنية, ديمقراطية حديثة أو شوري تراثية, المصحف والسيف أم الدستور والقانون الطبيعي وحرية الرأي والاعتقاد, المساواة أو التمييز. *** وبينما يقول الحزب الوطني إنه سيطرح في مؤتمره العام المقرر عقده يوم3 نوفمبر2007 مبادرات جديدة وإصلاحات ديمقراطية وخططا للرخاء حماية لمحدودي الدخل المنهكين, استبقته جماعة الإخوان بطرح مشروع جديد لتأسيس حزب سياسي, في بادرة هي الأولي في تاريخ الجماعة تشكل, إن صدقت, تغيرا جوهريا يحقق مصالحها في العمل السياسي. لكن قراءة البرنامج المقترح لهذا الحزب الإخواني تصدم كل أنصار الديمقراطية وتروع بناة الدولة المدنية, وتدحض كل ما يطرحه ساسيو الإخوان عن إيمانهم بالديمقراطية, واستعدادهم للعمل العلني تحت مظلتها, فمرجعية الحزب السياسي المقترح مرجعية دينية مطلقة, ومرجعية قيادة الدولة بسلطاتها التشريعية والتنفيذية خصوصا هي هيئة العلماء صاحبة الحل والعقد, والقيادة مقصورة علي القائد الذكر المسلم, واستبعاد المرأة وغير المسلمين, وتحديدا الأقباط الذين يشكلون نسبة معتبرة من المواطنين, وهذا ينفي مبدأ المواطنة, ويهمش فكرة المساواة والتسامح التي نص عليها الدستور. وأظن أن رد الفعل الذي تلقاه الإخوان علي هذا البرنامج الحزبي كان صادما للجماعة ومنظريها بنفس القدر, مثلما كان مفرحا ومبهجا للحزب الوطني الحاكم, فها هو الذي يطرح نفسه بديلا ينتحر علي صخرة الديمقراطية قبل أن يخوض بحارها, وها هو يتراجع بحدة عن كل ما قاله عن قبوله بالديمقراطية!! الآن.. من الخطر الحقيقي أن نخضع سياسيا وواقعيا وفكريا لمن يريدون حشرنا بين خيارين وبديلين فقط, إما الحزب الوطني وحكومته, وانفراده بالسلطة, وإما الإخوان المبشرين بالدولة الدينية علي أنقاض الدولة المدنية الحديثة ونظمها الديمقراطية. ثمة خيار ثالث وعاشر قطعا, إن احتكمنا بصدق للمبادئ الديمقراطية السليمة, وإلا سنظل أسري هذه الثلاثية: النظام, والإخوان, ومعهما الاحتقان! خير الكلام: يقول إيليا أبو ماضي: صغرت نفوسهم فبات عزيزهم يخشي الجبان كما يخاف الطاغية عن صحيفة الاهرام المصرية 31/10/2007