أُسدل الستار على معركة انتخابية مليئة بالانتهاكات وأعمال العنف والبلطجة، وولد برلمان جديد محاصر بأحكام قضائية تطالب ببطلان كثير من دوائره، وأصبح الخاسرون والفائزون -ليس بالضرورة من فاز بالمقعد هو فائز حقيقي والعكس- مطالبين بطرح تساؤلات كبرى لمرحلة قادمة ستتجاوز في نتائجها وتداعياتها ما جرى في الانتخابات الأخيرة. المؤكد أن هناك قوى ورموزاً سياسية استهدفتها بشكل مخطط هذه الانتهاكات؛ على رأسها جماعة الإخوان المسلمين، بجانب مرشحي حزبيْ الكرامة تحت التأسيس، بالإضافة إلى كثير من مرشحي حزب الوفد والتجمع ممن كانوا ضحايا عمليات تزوير فجة وبيئة انتخابية عشوائية، كانت فيها الغلبة للأقوى بالمال والبلطجة. والمؤكد أن استهداف مرشحي الإخوان بهذه الطريقة الفجة لن يحل مشكلة الإخوان السياسية، كما أن التعامل معهم بهذا الشكل المهين سيعمّق مشكلتهم الممتدة مع كل النظم السياسية المصرية، منذ أكثر من 80 عاماً؛ خاصة أن الحل الأمني لم يُستخدم بمفرده مع الإخوان إلا في العهد الحالي؛ ففي العهد الملكي كان بريق الوفد وقوته السياسية عاملين أساسيين في ردع تمدد خطاب الإخوان وهيمنته على قيم المجتمع، وكانت شعبية عبد الناصر الجارفة عاملاً مهماً وراء جعل مواجهتهم بالأمن تجرى بحق جانب منهم؛ لأن هناك جانباً آخر دمجه النظام السياسي في مؤسساته من الأزهر وحتى الاتحاد الاشتراكي، والأمر نفسه تكرّر مع الرئيس السادات الذي دافع عن مشروع سياسي دعمه فيه البعض، واستطاع بالسياسة والأمن (في نهاية عهده) أن يحاصر مشروع الإخوان ولو نسبياً. والمؤكد أنه لتوجيه أسئلة كبرى للإخوان المسلمين؛ فلا بد من الاعتراف بأن مجمل الطريقة التي قال الحزب الوطني إنه واجه بها الإخوان نيابة عن باقي القوى السياسية، طريقة كارثية، وهي الأسوأ منذ تأسيس الجماعة عام 1928 وحتى الآن، وإنه لا يمكن مواجهة تيار فكري أو ديني أو سياسي بالأمن والبلطجة والقهر؛ ولكن لا بد من تقديم إطار ومبادئ سياسية تفرض على كل القوى السياسية الالتزام بها.. وفي حال الْتزمْتَ بها، يجب أن تصبح جزءاً من شرعية النظام السياسي القائم. والحقيقة أن الأسئلة التي لم يُجب عنها الإخوان، تتعلق بالواجبات التي يُفترض على أي تيار سياسي القيام بها؛ بصرف النظر عن مدى استجابة النظام لها من عدمه، أو حتى درجة ديمقراطيته.. وهذا ما فعلته نماذج النجاح في تركيا والمغرب، التي لم تنتظر أن يهبط النظام الديمقراطي عليهم من السماء حتى يلتزموا بشكل كامل بمبادئ الديمقراطية؛ بصرف النظر عن التزام النظام السياسي بها. ولعل السؤال الرئيسي يتعلق بموقف الإخوان المسلمين من شرعية الدولة الوطنية، ومن جمهورية ثورة يوليو؛ فقد ظلوا يُقدّمون أنفسهم باعتبارهم أصحاب شرعية بديلة أو موازية للشرعية القائمة، وخلطوا بين موقفهم المعارض من الحكومة، ومن النظام السياسي وبين موقفهم من شرعية النظام الجمهوري والدولة المدنية الحديثة. والحقيقة أن مشاركة الإخوان في العملية الانتخابية منذ 1984 كحلفاء لقوائم حزبية أو كمستقلين، ظلّت أمراً غريباً وغير مسبوق في تاريخ النظم السياسية؛ فهم لم يدفعوا استحقاقات أو ثمن الحصول على شرعية قانونية وحزبية، وفي الوقت نفسه حصلوا على 88 مقعداً في البرلمان، دون أن نتساءل عن طبيعة الخلل الموجود في النظام السياسي الذي لم يُتِح للقوى الشرعية أن تحصل على نصف هذه المقاعد لا في انتخابات 2005 ولا انتخابات 2010. والحقيقة أنه كان أمام الحكومة المصرية طريقتان لمواجهة هذا الصعود لتيار غير شرعي مثّله الإخوان، وهو إما القبول بشرعية حزب سياسي للتيار الإصلاحي المحدود داخل الجماعة، جنباً إلى جنب مع حزب الوسط، وبالتالي تفرض عليه تقديم برنامج سياسي مدني غير البرنامج الذي قدّمه الإخوان منذ أكثر من عامين، ولا يمكن لأي نظام سياسي ديمقراطي أن يقبله، أو أن تعتبر الإخوان تياراً غير قانوني؛ فتتم استعارة "الفلتر الإيراني" في فرز المرشحين؛ فيتم شطب مرشحي الجماعة من الأصل واعتبارهم يمثلون جماعة محظورة لا تلتزم بقواعد الدولة المدنية، وتطرح شعارات دينية وطائفية، وبالتالي لا تحتاج إلى استخدام التزوير والبلطجة وإفساد جهاز الدولة. ومن هنا فمن حيث المبدأ -وبعيداً عن شكل الحكومة وشكل الإخوان- لا يمكن لأي نظام سياسي طبيعي، أن يقبل بهذا الحضور لقوى غير شرعية في انتخابات يُفترض أنها تضمّ فقط القوى الشرعية والإصلاحية. ولذا بدا أمراً مدهشاً أن تجد كثيراً من مرشحي الإخوان وهم يدعون للعصيان المدني ضد النظام، ويطرحون خطاباً سياسياً شديد التطرف والثورية، وهم في الوقت نفسه مرشحون في انتخاباته وداخل شرعيته. فمن المستحيل أن تكون ثورياً في اللغة والخطاب، وفي الممارسة تدخل في لعبة انتخابية بحكم شروطها أنه لا بد أن تكون إصلاحياً ومعترفاً بشرعية النظام القائم، وتسعى من أجل أن تغيّره من داخله وعبر القواعد والشروط التي وضعها؛ مهما كان رأيك فيها، لا أن تتحداه وتطرح شعارات ثورية هدفها هدم النظام القائم. ولم يكتفِ الإخوان بدعوات العصيان المدني؛ إنما طرحوا شعاراً دينياً مثل "الإسلام هو الحل" في تحدٍّ صارخ لكل القوانين التي طالبت بمنع الشعارات الدينية. صحيح أن هناك كثيراً من "إخوان الحزب الوطني" طرحوا شعارات دينية؛ لكن الإخوان ظلوا هم التيار الوحيد الذي رفع شعاراً مركزياً دينياً؛ فالحزب الوطني طرح شعاراً عامياً وباهتاً؛ لكنه مدني "علشان تطمّن على مستقبل أولادك انتخب الوطني"، والوفد رفع شعار "يا بلدنا آن الأوان"، والتجمع "الحرية للشعب والخبز للفقراء"، وظلّ الإخوان هم التيار الوحيد الذي رفع شعاراً دينياً برغم أنف الجميع؛ مؤكداً فكرة الشرعية البديلة لمجمل النظام القائم بدساتيره ودولته القائمة. والمؤكد أن أزمة الإخوان التاريخية في صيغتهم الأزلية التي تمزج بشكل هيكلي بين الدعوة والسياسة؛ مما جعلهم التيار الوحيد الذي لم يتقدم بطلب تأسيس حزب سياسي شرعي تحت حجة أن النظام سيرفضه (وهو صحيح)؛ ولكن النظام السياسي يرفض تأسيس حزب الكرامة وحزب الوسط منذ 15 عاماً. وبرغم أن الأول حافظ على درجة مبالغ فيها من راديكالية أيديولوجية وسياسية خسرته في كثير من الأحيان؛ فإنه تمسّك بتقديم طلب للحصول على رخصة قانونية برغم كل العورات المعروفة في تشكيل لجنة الأحزاب، والأمر نفسه ينطبق على حزب الوسط كتيار مستنير تعرّض لاضطهاد حقيقي من قِبَل الحكم، ومع ذلك لم يتخلَّ عن الاعتراف بالشرعية القائمة برغم ما فيها من عيوب. وظلّ يدور في المحاكم 15 عاماً من أجل انتزاع الشرعية القانونية؛ في حين رفض الإخوان فكرة التقدم بتأسيس حزب سياسي؛ لأنها تعني اعترافاً بشرعية النظام الجمهوري والدولة المدنية والحزب السياسي الديمقراطي؛ كطريق لتداول السلطة، وهي كلها أسئلة لا يرغب الإخوان في الإجابة عنها أو دفع ثمنها. نعم أفراد الإخوان وشبابهم تعرّضوا كمواطنين مصريين لظلم فادح في الانتخابات الأخيرة، واستهداف أمني مدان، وحوادث عنف وبلطجة لا يمكن قبولها، أما الجماعة فعليها أن تسأل أسئلة كبرى، وأن تتجرأ على تقديم إجابات أكبر، إذا أرادت أن تصبح في يوم من الأيام جماعة سياسية حقيقية. نُشر بالمصري اليوم بتاريخ 23/12/2010