نحن وهم.. قلب ينزف وأطراف تتمزق صلاح الدين حافظ سريعاً، التف الحبل الخانق حول أعناقنا، وأصبح ما كنا نباعده عن أنفسنا، قريباً إلى حد مذهل. أتحدث عن الفوضى الخلاقة مرة أخرى، ولن أمل الحديث عنها، تحذيراً وتنبيهاً لمخاطرها. وحين نذكر الفوضى الخلاقة، ذلك التعبير الأمريكي الشائع الآن في الأوساط السياسية والعسكرية والإعلامية، لابد أن نذكر كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية، أبرع مروجي نظرية الفوضى الخلاقة هذه، على الرغم من كلامها الدبلوماسي وابتسامتها الإجبارية. نتذكر أن “كوندي" السمراء قالت عندما سئلت عن الحرب العدوانية “الإسرائيلية" ضد لبنان في صيف العام الماضي ،2006 إن هذه الحرب تمثل لحظات آلام المخاض، وعندما سئلت مرة أخرى ماذا تعني بالمخاض، أي مخاض، أردفت بثقة مطلقة: مخاض الشرق الأوسط الجديد. الحرب، العدوان، كثافة النيران، الإفراط في استخدام القوة، الأسلحة الفتاكة جيلاً بعد جيل، تمثل إذاً المخاض لولادة شرق أوسط جديد، كما تصوره خبراء أمريكيون ينتمون غالباً إلى الجناح المتشدد في اليمين المحافظ الملتف حول الرئيس بوش، وها هم يمارسونه بقوة وقسوة أملاً في انتصار أمريكي كاسح عبر خريطة العالم. الوهم، الفشل، الإحباط، التراجع، هو الناتج الرئيسي الذي يجنيه الآن الرئيس بوش، من مغامراته العسكرية عبر العالم، التي لم تحقق له أي نصر ولو كان جزئياً، لكن العقلية الاستعمارية المغامرة لا تزال تصّر على الاستمرار في مغامراتها العسكرية خصوصاً، ولا يزال منظّروها يصرون على تجريب مخططات جهنمية لإعادة صياغة خرائط العالم الجغرافية والسياسية، وفق مفاهيمهم ومصالحهم. وها هي خريطة الشرق الأوسط يعاد رسمها بالفعل على وقع المعارك الطاحنة المتسعة كما في العراق، أو المحكومة كما في فلسطين، أو المنفلتة كما في الصومال، أو الكامنة كما في السودان، لكن الخريطة السياسية يعاد رسمها بالموازاة مع المعارك العسكرية، لتكون جاهزة مطبقة سارية مع منتصف العشرية الثانية من الألفية الثالثة، تحقيقاً لحلم “القرن الأمريكي". بالأمس القريب، حين كنا نحذّر من مخاطر الشرق الأوسط الجديد، وإعادة تقسيم وتفتيت الدول العربية خصوصاً، كان البعض لا يصدق ويعتقد أن في الأمر مبالغات، وربما تشنيعات كراهية ضد السياسة الأمريكية. أما الآن فالأمر أصبح أكثر وضوحاً، لأن السياسات والأهداف الأمريكية أصبحت تعبر عن نفسها بأكبر قدر من السفور. * * * لقد كشفت الوثائق الأمريكية المسربة أخيراً، أن الاستراتيجية الأمريكية اعتمدت منذ عامي 1995 2000 مخطط الحرب المدمرة ضد العراق، كمرحلة ثانية بعد حرب عاصفة الصحراء وفي ظل الحصار الخانق المفروض عليه، كان ذلك قبل وقوع هجمات سبتمبر 2001 ضد نيويورك وواشنطن، بما يؤكد للمرة الألف أن غزو العراق واحتلاله، ومن قبله حرب أفغانستان، لم يكن انتقاماً أو ردة فعل أمريكية على الهجمات الإرهابية الدامية في سبتمبر إياه، بل كان جزءاً من مخطط أوسع، لا يكتفي بحكاية الانتقام من الإرهاب، بل هو يهدف إلى اقتحام خريطة العالم العربي والإسلامي بالقوة المسلحة وإخضاعه عنوة وتجبراً. وبمرور الأيام وتوالي الأحداث أثبتت إدارة بوش بكل الدلائل العلمية والعلنية، أنها مؤمنة حقاً بنظرية المحافظين الجدد عن “القرن الأمريكي"، مصدقة فعلاً لما ادعته عن الرسالة السماوية للتبشير بالإصلاح والديمقراطية، وفرض قيم الحرية والتسامح بقوة السلاح وغطرسة الحرب. وها نحن ننعم، والحمد الله، بكل فضائل هذه النظريات والرسائل التبشيرية، إذ إن حربي أمريكا ضد أفغانستان منذ عام 2001 والعراق منذ عام ،2003 لم تحققا النتائج السريعة المرجوة، فامتدت عبر الخريطة من شرقها إلى غربها، حاملة كل بشائر الفوضى الخلاقة، وخلاصتها تدمير ما هو قائم من نظم سياسية وقدرات عسكرية واستنزاف كل ثروة اقتصادية، في هذه المناطق المضطربة والغنية، لإعادة بناء كيانات ودول ودويلات أخرى عديدة. وها هو حبل الفوضى الخلاقة يلتف حول أعناقنا بأسرع مما كان يتصور كثيرون، حيث تتآكل أطراف الجسد العربي بسرعة مذهلة عبر الحروب والصراعات القبلية والمذهبية والعرقية، من العراق شرقاً إلى دارفور السودان غرباً، مروراً بالصومال جنوباً والحدود العراقية التركية شمالاً، حروب تؤدي إلى انهيار ما هو قائم، وصراعات تعمق الكراهية وتفضي إلى التفتيت والتمزيق، تفتيت الأراضي والدول، وتمزيق الشعوب الكيانات. فإن كانت هذه هي حالة الأطراف، فإن قلب الوطن العربي ينزف دماً كل يوم، ربما على نيران هادئة مقارنة بنار العراق والصومال والسودان اللاهبة، ولكنه ينزف ويستنزف وفق درجات محسوبة وبمعدلات محكومة، وها نحن نلاحظ حالة الدوخة والدوار والارتباك التي تصيب دول القلب، وقواه الأساسية، مصر وسوريا والسعودية، امتداداً إلى لبنان وفلسطين والأردن، فثمة نزاعات وصراعات تنشب كل يوم، وثمة ضغوط وتهديدات عاتية، وثمة حيرة تمتلك صناع القرار في مواجهة كل ذلك، وهم يرون دولاً راكزة مثل العراق تتهاوى، ودولاً مهمة مثل السودان تتفتت، بما يعني أن لهيب الأطراف قد اقترب من القلب فإذا بالقلب لا يرتجف لكنه ينزف بسرعة. وبين حروب الأطراف واستنزاف القلب، يمارس العزل بأسهل الوسائل، حيث يجري عزل دول الخليج العربي داخل حصار خانق بحجة حمايته من الأطماع الإيرانية بل والعربية، وبحجة الحفاظ على ثرواته النفطية ذخراً لأبنائه من دون غيرهم من فقراء الجوار، بينما الحقيقة أن هدف العزل والحصار استنزاف الثروات من دون حساب مع إعادة ترسيم الخريطة السكانية الاجتماعية، بتوطين وتسكين ملايين العمال والمهاجرين القادمين للعمل من شرق آسيا، في بيئة خليجية تعاني من هشاشة السكان وضخامة الثروة ومخاوف الأمن. فإن كان هاجس الأمن هو سلاح عزل الخليج، فإن هاجس التقدم والالتحاق بأوروبا هو سلاح عزل دول شمال إفريقيا، عن بقية الجسد العربي، حيث القول الذي يجري تعميمه إن هموم ومشاكل الدول المغاربية تختلف عن تلك المشارقية، وحيث الإغراء الدائم بأن الدول المغاربية أقرب إلى أوروبا الحديثة المتقدمة، ومن ثم فالمستقبل للالتحاق بها والانفصال عن المشرق العربي. ونظن أن الجزء الأكبر من هذا المخطط الجهنمي قد تحقق، فبدلاً من الحديث الرومانسي الموروث حول أحلام الوحدة العربية من الرباط غرباً إلى بغداد شرقاً، ومن الخرطوم جنوباً إلى حلب شمالاً، أصبحت خريطة الوطن العربي مقسمة بالفعل إلى أربع كتل رئيسية، هي دول الأطراف، وكتلة القلب، وجيب الخليج، ثم معزل المغرب العربي. وفي ما بين هذه التقسيمات، تشتعل الاحتقانات والصراعات وتتصاعد المخاوف والشكوك المتبادلة، بينما سوس الفساد والاستبداد يسري في الداخل بدرجة غير قليلة، كي يشكل وقود اللهيب والانهيار الداخلي، المتحالف بالطبع مع ضغوط الحصار الخارجي. وإن كانت مقاومة المخططات الأجنبية الهاجمة، سواء كانت فوضى خلاقة أو مدمرة، أمراً ممكنا كما أثبت تاريخنا الطويل، فإن مشكلتنا المستعصية حقاً، تبدو وكأنها الداعم المساندة للغزو والتخطيط الأجنبي، ونعني بصراحة أن المخاطر والتحديات الداخلية هي الأشد عنفاً، لأنها هي التي تقطع الشرايين فلا يصل الدم إلى القلب الواهن ولا إلى الأطراف المعطوبة. ولم يكن ممكناً أن تنجح نظرية الفوضى الخلاقة في تقسيم العالم العربي، كما هو الآن، ولا في استمرار تفتيت دوله الرئيسية الكبرى كما هو متوقع خلال سنوات قلائل، لولا أنها وجدت الأرض ممهدة وصالحة، حيث يسودها تحالف الفقر مع القهر، ويحكمها تحالف الفساد والاستبداد، وفوق هذه الثنائيات بنت النظرية الأمريكية أسس الفوضى السائدة والمنتظرة. هيا إذاً نقاوم.. لكن بعض نظمنا الحاكمة عبر الوطن العربي تخنق شعوبها، بحجة أن الأولوية هي لمقاومة الضغوط الخارجية والاعتداءات الأجنبية، ومن أجل ذلك تتوارى الحقوق وتنتهك الحريات، وقد جربنا ذلك طويلا والحال هو الحال. فلماذا لا نجرب من الآن فصاعداً، تغيير المعادلة، بإطلاق الحريات وصيانة الحقوق واحترام المواطن، طرقاً لمقاومة الضغوط والاعتداءات الأجنبية؟ وحتماً ستختلف الأوضاع سواء في القلب الواهن، أو عند الأطراف الممزقة.
آخر الكلام: يقول خليل مطران: إنما الصالح يبقى صالحا آخر الدهر ويبقى الشر شراً عن صحيفة الخليج الاماراتية 24/10/2007