لم نكد بعد، نستوعب دروس الحدث الموريتاني، أو أن نتعرف على مجريات وخصائص التجربة الديمقراطية الناشئة في "بلاد الشنقيط"، فقد فاجأنا العسكر بمقارفة انقلابهم الخامس عشر خلال السنوات الثماني والأربعين الفائتة، وبمعدل انقلاب واحد كل ثلاث سنوات تقريبا.
مضى على آخر انقلاب في نواكشوط ثلاث سنوات، جرى خلالها نقل السلطة إلى حكومة مدنية، بعد انتخابات رئاسية وتشريعية، شهد العالم بنزاهتها، لتُسجّلَ بذلك ثاني سابقة في تاريخ الانقلابات العسكرية العربية بعد انقلاب سوار الذهب في السودان عام 1985، يسلم فيها الجنرالات الحكم للعسكر بعد أن وصلوه على ظهور الدبابات، وتربعوا من دون منازع، فوق قمة هرم السلطة، الأمر الذي أغرى كثير من المحللين والمراقبين إلى وصف هذا النوع من الانقلابات "بالانقلابات الحميدة"، تمييزا لها عن "الورم الانقلابي غير الحميد"، وفي رواية ثانية عن "الكولسترول غير الحميد"، الذي تفشى في الجسم العربي خمسينيات القرن الفائت وستينياته، قبل أن يتعلم الحكام الذين جاءوا على ظهور الدبابات، كيف "يسووا الصفوف ويسدوا الثغرات" في وجه أي انقلاب لاحق.
لقد تابع الإصلاحيون العرب، بكثير من التلهف والاهتمام وقائع السنوات الثلاث الأخيرة في عمر موريتانيا، وكادت "نظريات جديدة" أن تطل برأسها مستلهمة الحدث الموريتاني، نظريات تتحدث عن "ديمقراطية الأطراف" و"ريادية" الدول الصغيرة، مقابل استبدادية الدول الكبيرة التي تمسك بتلابيب السلطة والثروة فيها، عائلات وسلالات لن تسمح بتجديد السلطة إلا من داخلها.
ولكم أثار زملاء لنا من موريتانيا إعجاب واحترام الحضور في مؤتمرات عربية ودولية تتحدث عن الديمقراطية في الشرق الأوسط، إذ بدا أن بلد الانقلابات المتواترة، قد دخل فعلا مرحلة جديدة، وأن الديمقراطية الموريتانية قد بدأت تتسلل فعلا إلى صدارة قوائم الانجاز في مضمار الديمقراطية وتداول السلطة واحترام حقوق الإنسان والإصلاح السياسي في العالم العربي.
لكن يبدو أن العسكر لم يرق لهم رؤية السلطة تتسلل من بين أيديهم وتتوزع على البرلمان والحكومة والرئاسة والمجتمع المدني والأحزاب ووسائل الإعلام...يبدو أن تجربة التعايش والمساكنة بين "مراكز مدنية وعسكرية" لصنع القرار، لم تكن خيارا رائقا للجنرالات الذين امتهنوا إصدار الأوامر والحكم على طريقة "تمام أفندم"، فانقضوا ذات صباح على الرئيس المنتخب ورئيس وزرائه، ووزعوا الدبابات في الشوارع ومفترقات الطرق وعلى أسوار الإذاعة والتلفزيون وأصدروا "البيان رقم واحد" على عادة من سبقهم من الجنرالات والانقلابات. ظن هؤلاء أن حكم المدنيين المنتخبين الشرعيين، قد بدأ يقضم شيئا فشيئا من منظومة مصالحهم ونفوذهم وسلطاتهم، خصوصا حين أقدم الرئيس الموريتاني على إحداث تنقلات عزل بموجبها قائد الجيش والحرس الجمهوري، فرد هؤلاء بضربة استباقية أطاحت بالرئيس ورئيس الحكومة وبكل الذي تم ترشيحهم لخلافتهم من ضباط وجنرالات.
مؤسفة هذه النهاية المبكرة لتجربة واعدة، والمأمول فعلا أن ينجح المجتمع الموريتاني في التصدي لهؤلاء وقطع الطريق على مراميهم، واستئناف عملية التحول الديمقراطي في بلادهم. ومؤسف هذا النفوذ الذي لا ينتهي للمؤسسة العسكرية والأمنية في عالمنا العربي، الذي يدفعنا للاعتقاد بأن ما يزرعه الريح تذروه العاصفة، وأن ما جاء بانقلاب "حميد" اليوم، سيتبخر بانقلاب "خبيث" غدا، بل ربما الأصح أن نقول، أن الانقلاب هو الانقلاب، وأن ليس هناك انقلاب حميد وآخر خبيث.