سراب السلام من زيارة القدس إلى لقاء أنابوليس * زهير حمداني إنها أكثر من مجرد مصادفة أن يتوافق عقد مؤتمر أنابوليس للسلام أواخر شهر نوفمبر الجاري مع أولى "خطوات السلام" التي دشنها الرئيس المصري الراحل أنور السادات بزيارته المسرحية المفاجئة إلى القدس في 19 نوفمبر 1977 والتي أفضت إلى توقيع اتفاقية كامب دايفيد فقد مرت ثلاثون سنة على مسلسل السلام الذي بدأ بمشهد غاية في الفنتازيا والغرائبية . ثلاثون سنة هي طول الرحلة من القدس إلى أنابوليس ظل فيها السلام تائها ولم يتجاوز مرحلة الوهم وبقيت فيه الاستراتيجية الاسرائيلية ثابتة وقوية بينما لم تخرج سياقات التفاوض العربية عن توجهها وبقيت وفية لتراثها العجائبي المسرحي المتخبط لقد طار الرئيس السادات آنذاك إلى القدس بدافع شخصي يكتنفه الكثير من القصور في الرؤية ويبرره تصور سياسي مغلوط يبسّط طبيعة الصراع ويحيله برمته إلى تراكمات نفسية تاريخية ويناقض وضعا عربيا كان يقوم على الكثير من الصلابة والتعبئة تجاه إسرائيل ووضعا دوليا بدأ يميل إلى تفهم الحقوق العربية في فلسطين. وقد بدأ العد التنازلي في الموقف العربي عمليا مع هذه الزيارة التي قفز بها السادات فوق إرادة شعبه وأمته وأسّس لثقافة انهزامية تقوم على اللهاث وراء إسرائيل والولاياتالمتحدة والسلام الموهوم ، وحوّل العرب من دائرة القوة إلى دائرة الضعف و أفقدهم ورقة استراتيجية مهمة وهي الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود ( الورقة التي ما زالت تحتفظ بها قوى الممانعة وتزعج بها إسرائيل ) فقد كان الإسرائيليون على استعداد لتقديم تنازلات عديدة للحصول على هذا الصك لأنه الهدف الأول والرئيسي الذي تسعى إسرائيل للحصول عليه بأي ثمن وهو أثمن ما كان يمتلكه العرب إضافة إلى تضامنهم النسبي الذي انفرط ودور مصر القيادي الذي ضاع لقد أسّست إسرائيل منذ ذلك الحين الاستراتيجية تعامل مع العرب قوامها خطة "ميناحيم بيغن"التي يفسرها بقوله "علينا أن نجعل العرب يشعرون باليأس من أنفسهم أولا ثم نجعلهم يشعرون باليأس من الإتحاد السوفييتي ثانيا ، ثم نجعلهم يشعرون باليأس من الضغط علينا عن طريق الولاياتالمتحدة ثالثا ، وبعدها سيأتون لنفرض عليهم ما نريد ..." وقد حصل ،و نفذت إسرائيل كل ذلك بدقة متناهية طوال رحلة السلام من القدس إلى أنابوليس اعتمادا على كل أساليب الإرهاب والقتل والاغتيالات والحروب والعمليات الخاصة واحتلال عواصم عربية والفصل العنصري والاستيطان والمجازر ،وقد تخلل كل ذلك اتفاقيات سرية وعلنية مع أطراف عربية من كامب دايفيد إلى أوسلو إلى ووادي عربة والمحصلة أن العرب يذهبون متهافتين إلى أنابوليس في الوقت غير المناسب حاملين اليافطات نفسها ، اعتبار السلام خيارا استراتيجيا عارضين الأرض مقابل السلام ومعتبرين كل أوراق اللعبة بيد الولاياتالمتحدة مع موقف سائل ومرن تجاه وضع القدس واللاجئين والمستوطنات كل ذلك وسط حالة انقسام فلسطينية غير مسبوقة وفي غياب أطراف فاعلة كسوريا ولبنان وحماس ودون أن يتضمن المؤتمر ملف الجولان ومزارع شبعا المحتلين بما يعني أن المسرح الإقليمي الدولي ومهيأ لتكون فيه المغانم الأمريكية والإسرائيلية وفيرة ولتكون الخيبة العربية كبيرة. والسؤال الذي من المفروض أن يطرح لماذا المؤتمر أساسا وهناك اتفاقيات عديدة سبقته ومؤتمرات أكثر بالمواصفات نفسها وربما في ظروف أفضل عقدت من أجل هذا السلام وقد فشلت جميعها في إقراره أو حتى تليين وجهة النظر الإسرائيلية فيما يتعلق بالحدود والقدس وحق العودة والمستوطنات التي تضاعفت من 110آلاف سنة1993 ، إبان أوسلو إلى 270ألفا سنة 2007 ولماذا هذا الإصرار على اعتبار مفاتيح الحل بيد الولاياتالمتحدة بما يؤدي إلى وضع جميع الأوراق في سلة طرف غير نزيه ومنحاز بالكامل إلى وجهة النظر الإسرائيلية،بل إن الولاياتالمتحدة ساندت التوسع الإسرائيلي علنا وعطلت التوصل إلى أي تسوية عادلة للصراع ، وخفضت سقف التطلعات الفلسطينية عنوة وأضعفت الدول العربية وهمّشت دورها في الصراع ولم تترك لها سوى اللهث وراء سراب التسوية .وعملت على تجزئة القضية الفلسطينية وتكريس حالة الانفصال والتجزئة داخل الوطن الواحد بما يعظم من المكاسب الإسرائيلية إن كل من إسرائيل والولاياتالمتحدة يسعيان إلى الاستفادة من حالة التشتت الفلسطيني والتشرذم العربي خلال هذا المؤتمر المرتقب لتحقيق منجزات سياسية تغطي فشلهما الذريع في لبنان والعراق وللخروج من أزماتهما الداخلية فالرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز يعتبر حالة الانقسام الفلسطيني "محظور إهدارها وهي فرصة لاتتاح إلا مرة واحدة "ويؤكد رفضه لحق العودة مشيرا إلى أن"إسرائيل لن تنتحر من أجل الفلسطينيين ولن تفتح أبوابها أمام ملايين اللاجئين ..."وتسعى الولاياتالمتحدة لاستثمار هذا اللقاء للتغطية على مشاريع أخرى يتم الإعداد لها في الخفاء لتلفت الأنظار بعيدا عن حشد الجيوش لشن حرب ممكنة على إيران ولدعم أنصارها من المعتدلين وتكريس التجزئة بين ما تسميه معسكر الاعتدال والتشدد وتعميق الانقسام الفلسطيني وتشديد الحصار المفروض على حماس وحمل الدول المشاركة على عدم التعامل معها باعتبارها حركة إرهابية وتأكيد دور محمود عباس وحكومة فياض ومعسكر الاعتدال العربي وتشديد الخناق على سوريا وحركات المقاومة والممانعة وسيكون الهدف الرئيسي لهذا الكرنفال السياسي إقناع الدول العربية الحاضرة بالتطبيع العلني مع إسرائيل وربما لإمضاء عقود شراكة وتعاون بعد ثلاثين عاما يجد العرب أنفسهم ولم يبتعدوا قيد أنملة يفاوضون على النقاط نفسها وفق الأسلوب نفسه الذي ابتدعه الرئيس السادات ،يكررون نفس الأخطاء ويلهثون وراء تسوية شاملة مازالت تبدو كحلم بعيد المنال متغاضين عن كون إسرائيل لا تريد غير الأرض والأمن والتطبيع بما يمكنها من الهيمنة على المنطقة دون تفريط في مكتسباتها الاستراتيجية ولا تعير اهتماما لقضية السلام التي تركته للعرب يلاحقونه كالسراب حتى في انابوليس . ** كاتب صحفي من تونس