تتحدث مضامين العملين اي رواية الشماعية لعبد الستار ناصر، وحكايات من الشماعية لخضيرميري، عن اكبر مستشفى للامراض النفسية والعقلية في بغداد.. وكان هذا المستشفى يضم في داخله المجانين والمختلين والمنحرفين والشاذين جنسيا.. الا انه وبعد مجيء النظام الديكتاتوري اصبح يضم السياسيين والمعارضين للنظام.. ولكل الطيف الثقافي والفكري.. ليصبح في النهاية اداة لقياس كل ماهو منحرف وشاذ وعادي.. وتمارس فيه بامتياز كل ادوات القمع والهتك لكرامة الانسان.. وباختصار، هو معتقل يتحول فيه الانسان السوي الى مجنون.. ويمارس فيه كل شيء الا العلاج. وان الاديبين حدثانا عن الواقع الحقيقي لمستشفى الجنون المسمى بالشماعية.. الا اننا نقف امام سرديتين مختلفتين. الاولى: حكايات من الشماعية وقد سعى خضير ميري في هذه المجموعة القصصية الى اسلوب الاصغاء الى المجانين وتفكيرهم، والوقوف مابين العقل والجنون .. ليلتقط من خلال استدراجهم حالات الممارسات الجنسية الشاذة.. وقد اعتمد بما يسميه فوكو: بجنون الحالم.. وليس المجنون.. فالحالم ليس مجنونا بحلمه مثلما هو العاقل، وخاصة عندما يحصل على ضالته في النشوة الجنسية حين يسرد قصته بهذا الشبق. فتعامل خضير مع شخصياته من المجانين باسترخاء جنسي وجلس معهم يكتب بورقة ولكن قرب النار.. بنفس المتأمل والحالم.. وفي بعض الاحيان المحقق الباحث عن اللذة في استدراجهم وقد اعطى حق الكلام للمجانين ومن يعتبرون كذلك رغم ان هذا يحتاج الى عقل ومعنى في الكلام.. فاعتمد خضير ميري على جنون عديم الجدوى وبائس من الناحية التربوية والاخلاقية.. واختصر الجنون الى الانحراف الجنسي فقط في حالة هي اقل سوءا من الحرية التي تبقى حلم الكثير من المجانين في هذا المستشفى.. وان كان الجنون شذوذا جنسيا فقط تعدم كل الحالات الاخرى وهي كثيرة.. وخضيرادرى بها خاصة وانه كان نزيلا في المستشفى لسنوات طويلة.. يقول خضير ميري ان حيوان الجنون ينمو داخل العقل في بادىء الامر، ثم يكبر على العقل، وعلينا مطاردته خارج العقل بعد ذلك.. ونسأل كيف ذلك بعد ان يلغي العقل.. نعم هذا ممكن بالحدود الفاصلة بين الانسان الطبيعي وغير الطبيعي، باعتبار انه لايوجد انسان طبيعي بالكامل بل حتى المجتمع فانه لايخلو من بعض القوى اللاعقلانية.. كما يقول: فوكو.. اما مطاردة شخصياته خارج العقل بتذكيرها للحالات الشاذة التي مارستها مثل، الزنا بالاخت.. او قتل شاذ جنسي لاخر اكثر شذوذا منه او ابن يزني بامه.. هذه وغيرها من مضامين قصصه لاتكون طاردة للجنون، بل هي عودة ثانية بقوة للجنون.. ورغم مرارة سجن مستشفى الشماعية، الا ان خضير ميري وجد لذته الادبية والفلسفية باستدراجه للعديد منهم والتقاط مايدور حولهم او يمارس بينهم.. فكان يتربص بأبطاله حد الاعتراف.. ويتلذذ بحكاياتهم وجنونهم التي تطاردها لعنة اللاعقل.. فاستطاع خضير ميري ان يفلسف الجنون من خلال الشذوذ الجنسي. اما الرواية الثانية اي "الشماعية" لعبد الستار ناصر، فقد عرى من خلالها الاساليب اللاانسانية والشاذة التي استخدمها النظام الديكتاتوري بتحويله البشر الاسوياء الى مجانين.. من خلال اطباء وعاملين منحرفين ومجرمين.. فجنون ابطال هذه الرواية كان بفعل التعذيب الوحشي والاذلال والصعق الكهربائي وحبوب الهستيريا.. وقد اعتمد على ثلاث شخصيات رئيسة في الرواية وقد اعطى حق الكلام للمجانين الثلاثة او من يعتبرون كذلك.. ليحدثوا عن الاساليب الوحشية والشاذة في هذه المصحة.. وكيف حولوهم من اصحاء الى مجانين. تقول الشخصية الاولى: انا امين هاشم بيطار الذي ظهر على شاشة التلفزيون وقال بالحرف: ان الحزب الشيوعي صار من الماضي.. وعلى الرفاق تسليم انفسهم دون مشاكسات.. فقد انتهى كل شيء.. انا لم اقل كلاما كهذا لكن الصوت كان صوتي.. ولا ادري كيف ومتى رموني في الجناح نمرة "3" ولماذا بدأت سهراتهم معي بوخر الحقن.. ومن اجل ماذا اشعلوا حرائق الكهرباء في جسدي..؟ اسمع كلمة مجنون تتكرر من زاوية ما في غرفتي، مجنون.. كلب، حمار، عليك ان تنهق الان: انهق ياحمار.. وتستمر سهراتهم حتى الفجر خمرة وشتائم، وسياط.. (الرواية: ص). ويقول كنت ابكي واذرف الدموع على رجولتي التي انسلخت وانا انهق حتى يتسلى ذلك السمين القصير الذي يأتي لزيارتي بين ليلة واخرى.. وفي كل مرة "يموت" فيها من الضحك "يرحمني" ويمنعهم من جلدي بالسياط او اشعال الحرائق بين عظامي. الشخصية الثانية في رواية عبد الستار ناصر "صفية" والتي اغتصبت في اول ليلة من دخولها الشماعية بعد ان اعطاها مديرها العام برشمات حمراء قبل دخولها الجناح نمرة "9" ، ).ص:19). اما الشخصية الثالثة فهي شخصية اسعد سعيد فرحان.. الشاب الصغير الذي سفحوا ماء وجه واغتصبوه عشر مرات في اول ليلة وصل فيها الى المستشفى.. ويعلق على هذا فيقول: هم اصحاب حق فيما يشتهون ويفعلون.. لا احد يمكنه الرفض.. لا احد يمكنه قتل نفسه.. حتى الموت ممنوع في هذا الجب المعتم الذي رموني فيه ولا ذنب لي غير انني من اقارب امين هاشم بيطار امين سر الحزب الشيوعي الذي اعتقلوه وقد خلعوا ملابسي عني واغتصبوني في حضرة امين هاشم بيطار.. وكانت تلك اول مرة أرى فيها امين.. وهو ينهق مثل حمار.. ص28. فهذه الاساليب الاجرامية وحالات الاخصاء التي تمارس ضد المسجونين في هذه المصحة السجن، هي لا شك اخصاء للوعي وليس الرجولة.. وللانتماء والمتعة التي يمارسها العقل والجسد معا في رغبات واحلام وامال الانسان سواء كان سياسيا ام مبدعا او عاملا منتجا فالاخصاء قمع للرغبة الحياتية وليس الجنسية فقط. وان الطبيب والمحلل النفساني في هذه المصحة يعالج المريض على ضوء عقيدته القومية البعثية.. فيحذف من خطاب المريض كل ما لا يخضع لافكاره وافكار اسياده.. وأي هفوة او اعتراض من المريض ، يسارع هذا الطبيب المخابراتي الى التركيز عليه باعتباره مجنونا حقيقيا.. ليقمع هذا الطبيب الشرطي كل رغباته.. ويمنع انسانيته. وفي الرواية قصص ثانوية مثل قصة عمار مظهر الشيخ رجل المخابرات الذي فرضوا عليه التحقيق مع العرب وخاصة الفلسطينيين.. وهو يعتقد انه اهون من التحقيق مع رجال الدين واعضاء حزب الدعوة.. كما علموه ان المتهم "مدان" مسبقا حتى تثبت براءته وليس العكس.. (ص70 71).ومحمد جميل السوبركي الشاب الفلسطيني المتهم بالعمل لصالح سوريا وفيلسوف المستشفى "خضير ميري" الذي تحدث عن عبدالستار ناصر من خلال الشخصية الاولى في روايته، ولم يفرد له فصلا خاصا.وقد كان الخلاص لهذه الشخصيات من هذه المصحة السجن يوم 9 نيسان الذي تبدأ بها الرواية.. يقول امين هاشم بيطار: اتذكر يوم هروبنا من "الشماعية" كنا نركض صوب الماء والطعام.. رمينا اجسادنا على مستنقعات آسنة.. الماء كان ينعشنا رغم اثار الهراوات التي كانت تهوى كل يوم على رؤوسنا واجسادنا نركض خلف الدبابات وهي تقتلع التماثيل من جذورها .. نصرخ "الله اكبر".ان حكايات من الشماعية لخضير ميري، ورواية الشماعية لعبد الستار ناصر.. اخذت القليل جدا من هذا المكان الموبوء واللاانساني.. ورغم التعرية للممارسات التي تحدث في هذا المكان.. وخاصة في رواية عبدالستار ناصر الا ان هناك اشياء كثيرة لم يتوقف عندها العملان.. وقد اكتفيا بالاستدراج والسماع.. ولم يدخلا الى عمق هذه المصحة السجن وهما اعلم من غيرهما بما كان يحدث بها. المصدر: موقع الجيران بتاريخك 7 يوليو 2007