يتساءل الروائي والشاعر والقاص التشيكي ميلان كونديرا في روايته البطء بشاعرية أين راح متسكعو الأغنيات الشعبية (أو الغجر)، المشردون الذين كانوا يتنقلون في تكاسل، من طاحونة إلى أخرى، ثم ينامون تحت النجوم؟ وهو تساؤل يوضح بشكل مكثف فضائل الرومانسية برغم إنه لا يتطرق إليها في الحقيقة مباشرة، وهي الفراغ كمثال للعبقرية والكسل كفضيلة أولى تقوم عليها الرومانسية، مضاف إليها كل أشكال التجارب التي يتعرضون لها والتي تعتبر واجبا مقدسا، للرومانسيين الذين يفلتون دائما من العالم بالهرب إلى الحلم، فالعالم يصبح حلما والحلم عالما، كما أعلن نوفاليس أحد عباقرة الرومانسة. فعبر الإبداع وليس غيره بالمستطاع إلغاء الحدود بين الحلم والواقع، وذلك من خلال الخيال المبدع الذي يملكه الفنان، لذلك جاء قول نوفاليس..إن الطريق الخفي يمضي نحو الداخل..تأكيدا بأن الإنسان يحمل الكون في داخله، وأنه إنما يستطيع الإحساس بسر الكون بالغوص داخل نفسه، فالرومانسي وفقا لذلك هو الذي يمضي قدما في البحث عن..الزهرة الزرقاء..التي رآها في الحلم يوما، ولم يعد يتمنى إلا أن يجدها، مثلما تحكي الرواية الوحيدة غير المكتملة التي ألفها نوفاليس بعنوان..هنريك فون أوفترد نيجين.. والتي تحكي عن الحنين والبحث عن شيء بعيد ومستعص، وهو ما يميز الذهنية الرومانسية التي بدأت في القرن الثامن عشر واستمرت حتى منتصف القرن التاسع عشر، كردة فعل على السلطة المطلقة للعقل خلال عصور التنوير، وكانت بمثابة أول ثورة للشباب في أوروبا في ذلك الوقت، بالنظر إلى أن في عام 1800 كان الجيل الرومانسي الأول، في العشرين من عمره. وإذا أردنا أن نرى الرومانسي في صورته النمطية فهو، يكون عادة في سن الشباب والأغلب يكون طالبا غير لامع كثيرا في دروسه، يحمل رؤية للحياة مضادة بعنف للمجتمع البرجوازي، ويعتبر الطابع المأساوي متحكما دائما بهذه الجماعة التي يمكن إيجاد ملامح مشتركة بينهم وبين الهيبيين في العصر الحديث، ويمكن أن يطلق على الرومانسية جماعة الشباب الموتى، فبداية من نوفاليس الذي لم يعش إلا تسعة وعشرين عاما، كان مصير معظم الرومانسيين الموت في شرخ الشباب بعضهم بالسل وبعضهم الآخر انتحارا، أما الذين لم يموتوا قبل الثلاثين فقد تخلوا عن الرومانسية و أصبحوا برجوازيين محافظين. ومن الشكلين اللذين يمكن تمييز الرومانسية فيهما، وهما الرومانسية القومية والرومانسية الكونية، يمكن القول بأن إرث الرومانسية في الشكل الأخير أصبح متطلبا بشكل ملح في عصرنا الحالي بنزوعه الكوني وارتباطه بمفهوم الطبيعة المهددة بشدة، بعد أن صعدت نفعية هذا العصر وتيرة الاستغلال الجشع لعناصرها ، الهشة التوازن. * جريدة "الوطن العمانية 28 يونيو 2008