الثائرة هبة الحسيني بداخل كل ثائر وثائرة من ثوار 25 يناير 2011، روح فضية وقلب ذهبي، وجائزة ماسية، هذا الماس والذهب والفضة لا تراه إلا أعين الثوار، وبه يتعارفون بينهم، بهذه الغلالة من السحر الذي أسدلته عليهم أجمل أيام حياتهم، عن هذه الأيام الساحرة تكتبنا ... الثائرة "هبة الحسيني" ولنقرأ معها ذكرياتها عن لحظات الشمس وتحديد المصير وأصوات الرعد وأيام المطر والقنابل والرصاص. "أنا تيريزياس... رجل عجوز بذراعين متغاضنين ... رأيت المشهد وتنبأت بالبقية" تذكرت هذه الكلمات من ملحمة الإلياذة والأوديسا وأنا أسير... كنت أسير وحدي ليلا في الميدان ,بقايا خيام محترقة لأهالي مصابي الثورة ,, أو غيرهم ...! لا أعرف حقا ....!! ربما اب يطالب بالقصاص لدماء ابنه الشهيد ,, ربما فتاة تطالب بدولة مدنية لا أعرف حقا ...!! أهي مطالب ثورية هل هؤلاء ثوار ؟! هل هذا هو حقا ما يدعى " ميدان التحرير " .. !!! اذن لما لا يلتفت احد إلى هؤلاء ؟؟ لماذا لا يلتفت أحد إلى تلك الدائرة المستديرة في أقصى المفارق ...؟!!! إلى هذه الجزيرة المعزولة ,من كان يصدق أن يتحول الميدان إلي جزيرة معزولة ,, محبوسة بين جدران حجرية ... يهذي سكانها بمطالب لا محل لها من الإعراب ؟ انهم يطالبون باشياء غريبة: عيش *** حرية *** عدالة اجتماعية ...!!!
إنهم يدعون لدين جديد ,, إذن فماذا نحن فاعلون.... ؟؟!!! هل صدقوا انفسهم .. هل صدقوا انها ثورة ؟؟ ومن كان يصدق ؟!! أسير في الميدان المظلم أتساءل : هل هذا هو ذات المكان ؟؟ أرض الميعاد التي جمعتنا من الشتات والتيه على قلب رجل واحد ... جمعتنا في يوتبيا عمرها 18 يوما ؟؟!! إني أحسد نفسي........!!!!!!!!!!
لقد عاش أفلاطون ومن قبله وبعده الكثيرون... يحلمون ....أن يقيموا المدينة الفاضلة ...!!! وقد ماتوا قبل أن يروا حتى هيكلها ...!!! لكني رأيتها ...!!! لا... بل عشت فيها...!!! تنفست هواءها ...!!!!!!!!!!!!!!!
صحيح أنه كان محملا ببقايا رائحة الغاز لكنه كان مفعما بأنفاس الحرية ....! ذقت ثمارها.... صحيح إنها كانت خضراء لم تنضج بعد.... لكنها كانت طازجة...!! لم يعطبها بعد عفن السنين ، ورطوبة المكاتب ، والملفات المكدسة في الغرف المغلقة التي يختبأ فيها الساسة المحنكون ،ورموز المعارضة المصطنعة ... وتفوح من ستراتهم الأنيقة رائحة العطن ...!!!!
كانت مدينة نقية فتية مفعمة بالأمل .... إحصاءات البشر كانت تقول ان هذه الرقعة من الارض التي تسمى ميدان التحرير لا تكفى الى لحمل مليوني شخص على الاكثر, لكني لم اشغل نفسي كثيرا باحصاءاتهم البشرية لاني ببساطة لم اكن اقف على الارض وانا في تلك المدينة (الميدان) انما كنا نرفرف باجنحة تحملنا إلى سماء بلا عنان ... ومطالب بلاسقف.. باختصار كانت تحملنا يد الله ....!!!! الاثنين 24 يناير2011 الساعة العاشرة مساء اقف في ردهة إحدى المؤسسات الحقوقية التي كنت أعمل بها وقتها مع أحد الشباب هو مذيع معروف الآن, وقتها كان ناشط حزبيا وسياسيا وصحفيا واعدا ... كنا نناقش احتماملات ما سيحدث غدا والسيناريوهات المطروحة. هل يعقل أن تحدث ثورة دون توعية دون مقدمات؟؟ وإذا حدثت ما احتمالات نجاحها وفشلها؟؟ إصابتها وخيبتها. وهل يعقل أن نحدد يوما لإقامة الثورة وساعة وتاريخ ومكان للتجمع ,,إن هذا ينافي كل ما تربينا عليه من حقائق تاريخية وتجارب انسانية. الثلاثاء 25 يناير 2011 سعادة .. فلتذهب الثوابت التاريخية للجحيم ولتدفن بين رماد أرفف الكتب , أذا كانت الكتب تسطر التاريخ وتكتبه فأنا الآن أمام البشر والبشرمن يصنع التاريخ ... التحم بهم ويلتصقون بي أسير في إثرهم ويسيروا على خطاي ,ضمير جمعي يحركنا دون اتفاق دون تخطيط دون (توعية ), إنني لم افعل شيئا أكثر مما دأبت عليه منذ 2005 ... نهتف,نقف, نعتصم ,نتحدى , نواجه لكن اليوم هناك فرق اليوم أنا أؤمن , ندين جميعا بدين الثورة, أخشع في وقفتي كما يخشع المصلي , ابتهل في هتافي كما يبتهل الداعي في تلاوته , إننا سننجح سنصل سنسجد شكرا لله على تحقيق مطالبنا ... وصل لنا خبر استشهاد ثلاثة في السويس فتلونا بيننا وبين انفسنا صلاة غائب على ارواحهم صلاة صامتة... وهنا كانت اللحظة الفاصلة لقد اصبحت ثورة لم تعد تصبح مظاهرة. بالرغم من العلقة الساخنة التي أخذناها يومها إلا انني ذهبت لبيتي وأنا أعلم إني سأعود ولن أكون وحدي وبالفعل لم أكن مخطئة. في الأيام التالية كنت أتواجد في عملي بالمؤسسة الكائنة في ميدان عبد المنعم رياض أشاهد كر وفر وتواجد أمني مكثف ومنع وتفتيش لكل نملة تسول لها نفسها ان تطأ بقدمها ارض الميدان لكن في ليلة 28 يناير , وفور نشر لائحة أماكن التجمع جوامع وكنائس للخروج بما سمي جمعة الغضب لدماء الشهداء , عرفت أننا سنحتفل قريبا في الميدان ليلة على شرف الحرية... كنا ثلاثة ورابعنا يقيننا ... إتفقنا على اللقاء في جامع الفتح ... كلنا ... مسلمينا وملاحدنا ... من سيصلي ومن لن يركع ... لم تكن هناك هواتف ولا انترنت ولا اي وسيلة اتصال , لذا لم نستطع العثور على بعضنا يومها ... فقد كانت مصر كلها في الشارع ولا جدى من البحث عن بعضنا ... لكننا نشعر أننا معا , وإن لم نرى بعضنا البعض. كانت خطبة الجمعة يومها، ولك أن تتخيل عن "طاعة" ولي الامر, وعشرات المخبرين والمخبرات, يؤدون حركات تمثيلية كالصلاة ومهمتهم مراقبتنا أو ضربنا والقبض علينا وقت اللزوم. كان الأمن يتمتع بذكاء يحسد عليه كالعادة ... تفتق ذهنه عن رشقنا بالقنابل المسيلة ونحن لازلنا نرتدي أحذيتنا على باب الجامع جريت لاحتمي بجدران الجامع فلم تكن كافية لتحميني من نيران قوة غاشمة لا تحترم اي مقدس كدت أصاب بالإختناق لولا سندت على سور الجامع الحديدي وخارت قواي لكني نظرت للجموع التي تعود تحتمي من الضرب وأدركت اني لو استسلمت للسقوط سأداس بالأقدام ... نطقت الشهادة وتمالكت نفسي ودخلت الجامع بصعوبة شديدة وفي تلك اللحظة قررت نفسي الأمارة بالسوء إني لن أنزل مظاهرة قط , نعم ضعفت ... فأنا بشر , لست بطلة ولست زعيمة , لكن بمجرد أن تنفست الصعداء واستعدت قواي أقسمت أني لن أعود منزلي قبل أن احقق كل ما أريد واكثر... أمسكت بالكاميرا في يدي ودخلت الجامع أصور الجثث المختنقة الملقاة أمامي صرخت أين شيخ الجامع الذي كان يعظنا منذ قليل؟؟ لن أدعي أني من الأبطال الذين خاضوا معركة السيطرة على الميدان ليلة 29 يناير لكني بمجرد أن وصلت هناك كنت أحاول ان أسجل تلك المعركة بالكاميرا كنت أرى فيها سلاح لا يختلف كثير عن الحجارة التي كانت في يد الثوار تواجه المدرعات ..وكان النصر ,, ودقت ليلة السبت أول خيام الإعتصام المبارك. أن نسجن في المكتب لأيام دون طعام ولا يجرأ احدنا على النزول بسبب حالة الإنفلات الأمني , أن نغامر فننزل الشارع لنرى كل أنواع الأسلحة من المطواة إلي الرشاش الآلي , أن يلوي الأمن ذراعنا فيخيرنا بين حريتنا وأمننا فنختار ان نشكل اللجان الشعبية, كل هذا استطعت تفسيره وقتها بل والتنبؤ به والتعامل معه, لكن وأنا أسير في طريق عودتي لمنزلي في حي الهرم بعد أسبوع في الميدان دون استحمام وقد نفذت نقودي فصارت زيارة قصيرة للمنزل أمري حتمي , كالجندي الذي يأخذ إذن من قائده24 ساعة ثم يعود لمعسكره ليعطي التمام لقائده في الجبهة هكذا كان إحساسي وأنا استجمع حاجياتي بسرعة وأودع أمي (الفلة) الغاضبة، والتي تعلن عدم رضاهاعما نفعل أبدا , كل هذا استطعت أن أتعامل معه وأفسره , لكن ما لم أفهمه وقتها وتسائلت عنه في طريق عودتي من شارع الهرم للتحرير ... هو , ياترى إلي أين تتوجه كل هذه الجمال ...؟؟ لم أكن أتخيل, وهل كان أحدنا يفعل ؟؟؟ لن أطيل عليكم بسرد ماحدث , فقد كانت تلك اللية موضوع فيلمي الوثائقي الثاني 0 موقعة الجمل , فقد كنت وقتها أرى بأم عيني الحقيقة و على شاشة التلفزيون كذبة من صناعة ماسبيرو, أري شاب يدهس تحت الجمال وآخر يصعد بشجاعة أعلى كوبرى أكتوبر لمواجهة هجوم البلطجية فيفاجأ برصاص القناصة يخترق قلبه أو رأسه أو صدره الشجاع , إن سرعة الأحداث أكبر من تسجلها كاميرا أو عدسة ولكني وقتها لم أكن أصور لأصنع فيلما أو أدخل مهرجان لكني كنت أريد أن أوثق بالدليل جرائم ارتكبت في حق هذا الشعب.
لكني أبدا لم أكن أتخيل أن يذهب كل هذا سدى , عندما كنت اقفز فرحا مع الجماهير يوم التنحي لم اكن ابدا أتوقع أن نرقص على جثث الشهداء احتفالا بانتصارات انتخابية زائفة زائلة, لم أكن أتخيل وأفتح عيني للرصاص لكي تتلقط عين العدسة لقطة قد تكون قشة في ميزان العدالة ,أن أري القاضي يصم أذنيه ويعصب عينيه عن الحقيقة , ولم أكن أتوقع أن يستوقفني ضابط جيش بعد موقعة الجمل ليفتشني ويأخذ مني الكاميرا ويمسح كل ما وثقت عليها من جرائم ويهددني بالحبس, ولولا اني تمتعت بشئ من الذكاء وإيمان بنظرية المؤامرة وتركت نسخة من المادة الوثائقية مع أحد أصدقائي لما رأى هذا الفيلم النور أصلا, و لم أكن أتوقع طبعا بعد الثورة أن يمنع الفيلم من العرض لمجرد أني أتهم الجيش بالتواطؤ في قتل المتظاهرين , ذلك الجيش الذي سلمنا فريسة لجلادينا , بل وكان هو واحد منهم , ذلك الجندي الذي كنا نركض احتماء به ليستر عوراتنا التي انكشفت بعد ان سقطنا على ارض سالت عليها الدماء,, لتمتد يده لتكشف عوراتنا وتستبيح حرمات "سميرة ابراهيم" وغيرها, في تلك اللحظة فضت بكارة هذه الثورة البتول بنت الثمانية عشر يوما, واغتصبت وهي لاتزال طفلة , وشابت وهي في ريعان الشباب.
لم أكن أتوقع كل ما حدث في محمد محمود ومجلس الوزراء ,, لكني عندما كنت اسير في هذه الجزيرة المجهور ة المعزولة ... جزيرة التحرير التي صارت حبيسة الجدران الحجرية , وأنا أري من خلفها الناس تأكل وترقص وتفرح وتحتفل ... ولا تزال أرض الجزيرة غارقة بدماء لم تجف ... عندما رأيت ذلك المشهد ,,صورة شهيد حفرت على الجدار ,, حفرت بدمه قبل الالوان ,ما اسمه؟؟.. لا أذكر,, ومن يذكر ....؟؟ أبحث عنه لعله مكتوب أسفل الصورة .. لا لقد مسح بفعل الزمن ,, فقد مر عام ونصف يا صديقي, ولازال قاتلك طليقا, وليس فقط, هل ترى هذا الشاب الملتحي ... ذلك الشاب كان يقف بجوار الشهيد في الميدان, ربما دافع عنه ذلك الشهيد بصدره وتلقى الرصاصة بدلا منه ,,هل تراه وهو يقترب من صورته ,,هل سيبكي عليها ؟؟ .. هل سيتلو دعاء أو صلاة ... لا ... رأيته يلصق فوق صورة الشهيد صورة أخرى, بوستر لأحد مرشحي الإنتخابات .. يغطي بها أخر ما تبقى من وجه الشهيد ,, ويهتف شكرا للعسكر.. ويهنئ (إخوانه) بالفوز المؤزر...
وقتها رأيت المشهد... وتنبأت بالبقية, براءة كل القتلة ... والمجد لكل الخونة....