إن المرء لا يكون خطيباً بمجرد صعوده المنبر ، ومخاطبة الجموع ، فالخطابة لها قواعدها ، ومعالمها ، وآدابها التي ينبغي أن يحرص عليها الخطيب حتى يكون ناجحا فاعلاً مؤثراً ، فلا بد أن يأخذ بحظ وافر من المران والممارسة ، والتأهل والإعداد والتحضير ، والعلم والثقافة المتنوعة . ولقد كان لعدد من خطباء العرب البارزين في الجاهلية دور كبير جلي في إخماد الفتنة بين القبائل أو إشعالها ، وكان لهم أثر واضح في المناسبات الاجتماعية من حض على القتال ، وإدراك الثأر ، أو الدعوة إلى رفيع الشيم ، ومعالي الأخلاق ، أو في خطب الوفود أو النكاح ، أو المفاخرات والمبارزات الكلامية ، مما جعل القبيلة تعتز بخطيبها وتفاخر به القبائل الأخرى تفاخرها بشعرائها أو أشد من ذلك. وهكذا كانت الخطابة في العصور الإسلامية المتعاقبة ، وقد جعل الإسلام أهمية بالغة ، ومكانة عظيمة لخطبة الجمعة لما تختص به من خصائص ، وتتميز به من مزايا تحتم على الخطيب أن يكون على مستوى هذه المكانة ، وتلك الأهمية ليؤتي جهده أكله ، ويثمر الثمرات المرجوة . إن خطبة الجمعة تتميز بمزايا ، وتختص بخصائص لا تتوفر في أي نوع من أنواع الخطب الأخرى ، حيث إنها تمثل شعيرة من شعائر الإسلام ، وتتم في جو مهيب خاشع تتهيأ فيه النفوس للتلقي والاستماع ، ويشعر المسلم فيه أنه في صلاة وطاعة لله جل وعلا ، كما أنها تتميز بوجوب الإنصات إلى الخطيب . وعدم التشاغل عنه ، مما يفردها عن سائر الخطب ، والمحاضرات ، والندوات التي لا ينطبق عليها الحكم الشرعي نفسه . وتتميز خطبة الجمعة أيضا بالاستمرارية والتكرار في كل أسبوع ، ففي العام الواحد يستمع المصلي لاثنتين وخمسين خطبة ، وهذا يمثل مساقا دراسيا متكاملا ، فإذا أحسن إعداده كانت آثاره جليلة ، وثمراته عظيمة . وتتميز خطبة الجمعة إلى جانب ذلك بتنوع الحاضرين إليها ، وباختلاف مستوياتهم وطبقاتهم العلمية ، والاجتماعية ، فإن الخطيب في خطبة الجمعة يخاطب جميع فئات المجتمع ، ولا يختص الحضور على فئة دون أخرى ، وهذا التنوع يعني تذليل العقبات التي تحول دون تنفيذ طرائق الإصلاح الاجتماعية ، فإن العامل وصاحب العمل ، والطالب والمعلم ، والموظف والرئيس كلهم يخاطبون في آن واحد ، ويوضعون أمام مسؤولياتهم ، فلا تخاطب فئة منهم في غياب الفئة الأخرى ، ولا تحمل المسئولية على فئة منهم دون الأخرى . إن الخطبة المؤثرة ينبغي أن تتصف بصفات ، وتشتمل على مقومات ، ومنها قصر الخطبة ، غير أننا لا نستطيع أن نحكم على الخطبة بالجودة والتأثير لمجرد كونها قصيرة وحسب ، أو نحكم عليها بالفشل لكونها طويلة فحسب ، فإن قصر الخطبة وطولها أمر تحدده عوامل كثيرة ، وتدعو إليه أسباب متنوعة ، وربما وصفت الخطبة بأنها جامعة مؤثرة مستوفية لموضوعها ، مع كونها قصيرة لم تتجاوز دقائق معدودة ، وربما وصفت بذلك مع كونها طويلة تجاوزت الوقت المعتاد لمثلها ، وإن من العوامل التي تتحكم في وقت الخطبة طولاً وقصراً : وطبيعة الموضوع الذي يتناوله الخطيب ، وأهميته بالنسبة للمخاطبين ، وكونه مما يحتاج إلى البسط والإيضاح ، أو يكفي فيه الاختصار والإيجاز . - ومن العوامل كذلك سعة المسجد أو ضيقه ، وكثرة المصلين أو قلتهم ، وكذلك ما يطرأ على الناس من أحوال عامة تؤدي إلى اضطراب نفوسهم ، واشتغال أذهانهم وعقولهم ، وما يستجد من أحداث لها آثار على عقيدة المسلمين ، أو أخلاقهم أو أمنهم واستقرارهم . فالخطبة وقت النوازل والكوارث والأحداث الجسام تختلف عنها في الأحوال المعتادة ، والخطبة في مسجد السوق تختلف عنها في مسجد الحي إذ ينبغي أن يعطي لهؤلاء من الوقت ما يناسبهم . والخطبة وقت الحرب والدعوة إلى الجهاد تختلف عنها وقت السلم ، وهكذا فإن لظرف الزمان والمكان دورا واضحا في تحديد الحاجة إلى الطول ، أو الحاجة إلى القصر في الخطبة ، غير أننا نقول : إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رغب في قصر الخطبة وطول الصلاة بجعله ذلك علامة على فقه الخطيب . فعن واصل بن حيان قال : قال أبو وائل - وهو شقيق بن سلمة - خطبنا عمار رضي الله عنه فأوجز وأبلغ ، فلما نزل قلنا : يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت ، فلو كنت تنفست- أي : أطلت- فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن طول صلاة الرجل ، وقصر خطبته ، مئنة - أي : علامة- من فقهه ، فأطيلوا الصلاة ، واقصروا الخطبة ، وإن من البيان لسحرا " (مسلم) فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى خصلتين عظيمتين إذا وجدتا في الخطيب تمكن من حسن الخطاب ، وقوة التأثير ، وهما : الفقه والعلم الشرعي الذي يمكنه من أداء الصلاة على وجهها قراءة ، وخشوعا ، وأحكاما ، وأداء الخطبة على وجهها ، ثم البيان والفصاحة التي تمكنه من جوده الخطاب ، ورصانة الأسلوب ، وسلامة التعبير ، لتقع الخطبة موقعها من النفوس .