د. إبراهيم قويدر تواجه الثورة الشعبية الليبية أولويات وتحديات مزعجة وخطيرة، تتمثل في أيهما الأول والأهم: التفرغ لإعادة البناء، أم محاسبة من أفسدوا وعاثوا في الأرض فسادًا، بدءًا من رءوس النظام إلى كل أزلامه؟!
ودائمًا عبر الثورات يسجل لنا التاريخ أحداثًا مختلفة، فهناك ثورات انغمست في دهاليز النظام البائد وأزقته العفنة للمحاسبة واسترداد الحقوق من أجل بعث روح النصر عند أفراد الشعب الثائر، مما يؤدى إلى رضا عام عند كل الناس ويحقق تشبع للرأي العام المحلي بأن الثورة التي شاركوا فيها قد حققت أهدافها، وأرجعت لهم حقوقهم المغتصبة وكرامتهم المنتهكة، وأخذت لهم القصاص ممن أهدر دماء أبنائهم.
وهناك ثورات أخرى رأت أن تتوجه نحو إعادة البناء المادي والمعنوي، فتفرغت للإعمار وبناء البنية التحتية وتطوير خدمات التعليم والصحة، وجسدت قولاً وفعلاً الشكل الديمقراطي للدولة الحديثة التي تصون حقوق الناس وتعمل على بث الحريات وإنشاء المؤسسات وتحويل الدولة إلى دولة مؤسسات يحكمها دستور يتوافق عليه الشعب؛ تجسيدًا لمبدأ المساواة والعدالة بين كل أفراد المجتمع أمام القانون.
والاتجاه الأول أعطى الأهمية القصوى لمحاسبة الأفعال الماضية، مما أدى إلى الانزلاق إلى صراعات متعددة ومتشابكة أفقدته الاهتمام المطلوب بإعادة البناء المادي والمعنوي.
والاتجاه الثاني خاض معركة البناء، وبدأ يهتم بالإنشاءات والمشروعات الإصلاحية الخاصة بالبنية التحتية والخدمات والتشريع والحريات، مما أدى إلى عدم محاسبة الحكم المستبد الثائرين ضده، مما زاد عند الناس الشعور بعدم الرضا لعدم استرجاعهم حقوقهم المغتصبة باختلاف أشكالها وأنواعها.
وفى ليبيا الحبيبة لكي نستفيد من تجارب الماضي لمن سبقنا في ذلك فعلينا أن نعمل من أجل الآتي: "تحقيق توازن رشيد بين بناء المستقبل لليبيا الحرة ومحاسبة نظام القذافي المستبد وأزلامه". فكيف يتم ذلك الأمر؟!
هذا ما أعتبره السهل الصعب، فبالإمكان وضع خارطة طريق لتنفيذه، الحديث فيه سهل؛ لكن تجسيده العملي يتطلب إرادة قوية من المنفذين، حتى لا يغلب اتجاه الآخر.
وهنا أقول: إن ما سبق أن أشرت إليه من التسامح الاجتماعي بين تركيبات المجتمع العربي الليبي بعد انتهاء نظام القذافي الذى أطلقت عليها خارطة الطريق الاجتماعية للثورة الليبية- لا تتداخل مع ما أطرحه الآن في هذا المقام.
الشكل التنفيذي الذي يحقق التوازن بين الاتجاهين يتحقق من خلال التالي: أولاً : الابتعاد عن تشكيل محاكم استثنائية خاصة لمحاكمة النظام السابق وأزلامه؛ لكي لا يتم الوقوع في المحظور نفسه الذي وقع فيه الآخرون، وإنما يتم ذلك من خلال النيابات والمحاكم، على أن تخصص لجنة بوزارة العدل لمتابعة عملية التحقيق والإسراع في البث في القضايا، والسماح لكل من له مظلمة أن يتقدم بها وفقًا للقنوات القانونية من نيابات ومحاكم، على أن يتم تغطية كل هذه الجلسات القضائية من قبل وسائل الإعلام المختلفة ليشعر المواطن بأن ما خرج من أجله يوم 17 فبراير تحقق في محاسبة هؤلاء المفسدين.
ثانيًا: تتفرغ أجهزة الدولة الأخرى لعملها التخطيطي والإنشائي للبنية التحتية وإعادة الإعمار من الناحية المادية، مع تجسيد ما ينص عليه دستور البلاد من أسس خاصة بالحريات والحقوق والمؤسسات الديمقراطية على أرض الواقع ليشعر الناس بأنهم يلمسون كل يوم نموًا في البناء المادي والمعنوي الحديث لثورتهم.
وهكذا بإذن الله تعالى يتحقق التوازن الرشيد المنشود بين بناء المستقبل ومحاسبة الماضي.
بقلم: د.إبراهيم قويدر WWW.DRIBRAHIMGUIDER.COM [email protected] الدكتور ابراهيم قويدر الخبيرفى السياسات الاجتماعية