وجّه الدكتور البرادعى، فور عودته إلى القاهرة بعد غياب استمر أكثر من شهرين، رسالة إلى الشعب المصرى وإلى النظام الحاكم فى الوقت نفسه، تطرح تساؤلات أكثر مما تقدم من إجابات. لذا أظن أنها تستحق مناقشة هادئة، لكن جادة، للتعرف على مراميها وانعكاساتها المتوقعة على حالة الحراك السياسى الراهن فى مصر. ولأن الحاجة باتت ملحة إلى خارطة تنير لشعب مصر معالم طريق التغيير الذى ينشده، فقد بات على القوى السياسية المطالبة به أن تخضع نفسها ابتداء لعملية نقد ذاتى على أمل أن تستخلص منه دروسا تقيها شر الوقوع فى نفس الأخطاء. أول ما يلفت النظر فى رسالة البرادعى تلك النبرة المتحدية التى تحمّل النظام كامل المسؤولية عن «قتل فرص التغيير السلمى»، وتحذره من عواقب ما أقدم عليه من تزوير لإرادة الشعب. وبعد أن يؤكد حق الشعب فى التظاهر وفى اللجوء إلى العصيان المدنى، إذا تطلب الأمر، يتوجه بخطابه إلى جميع القوى السياسية مذكراً إياها بدعوته لمقاطعة انتخابات مجلس الشعب، والتى ثبتت صحتها، موجها التحية لمن استجابوا لها منذ البداية وأيضاً لمن قرروا الانسحاب من جولة الإعادة، وينهى حديثه بمطالبة جميع القوى بإعادة توحيد صفوفها من جديد ومقاطعة الانتخابات الرئاسية المقبلة إذا أصر النظام على رفض مطالب الجمعية الوطنية للتغيير. وبوسع كل من يمعن النظر فى رسالة البرادعى أن يكتشف بسهولة أنها قد لا تحمل جديداً فى مضمونها، إلا أن توقيتها ونبرتها المتحدية يبوحان بأشياء كثيرة قد تحمل فى طياتها جديداً مؤثراً على حالة الحراك السياسى الراهن. لم يكن البرادعى حاضرا طوال الشهرين الماضيين حين كانت مهزلة ما يسمى بالانتخابات دائرة، وكان الناس يبحثون عنه دون أن يعثروا له على أثر، مما أثار استياء وغضب الكثيرين. وذهب كتاب غاضبون إلى حد التنبؤ بنهاية «ظاهرة البرادعى»، واعتبروها واحدة من فقاعات كثيرة تطفو بين الحين والآخر على سطح الحياة السياسية المصرية ما تلبث أن تنتفخ رويدا رويدا إلى أن تنفجر من تلقاء نفسها وتختفى فجأة مثلما تظهر فجأة. غير أن لعودة البرادعى عقب الانتخابات مباشرة وقيامه بتوجيه رسالة تحد للنظام دلالات لا تخطئها العين، قد تُفسر على أنها تدشين لمرحلة جديدة. فالرسالة توحى بأن الرجل عاد ليستأنف دوراً كان قد بدأه، وتؤكد أنه لم ولن يتخلى عن هذا الدور بسهولة ومازال مصمماً على مواصلة طريقه حتى النهاية. وإذا صح هذا الاستنتاج، وهو ما لا نملك عليه دليلا مؤكدا حتى لحظة كتابة هذه السطور، فسوف يعد ذلك بمثابة تطور مهم بالنسبة لقضية التغيير، يستحق، فى تقديرى، أن ننتبه إليه وأن نتابعه، غير أن القدرة على الاستفادة منه تتوقف فى النهاية على مدى توافر شرطين رئيسيين: الشرط الأول: أن يكون الدكتور البرادعى نفسه قد حسم خياراته وأصبحت لديه رؤية أكثر وضوحا عن طبيعة الدور الذى يطمح فى القيام به ومدى قدرته على الوفاء بمتطلباته واستعداده لدفع تكاليفه واستحقاقاته. ولأن سفره المتكرر وغيابه الطويل عن مصر فى فترات شديدة الحساسية أفقدا حالة الحراك السياسى زخماً كان قد وصل ذروته فى فبراير الماضى، فقد أصبحت الحاجة ماسة الآن لمعالجة سلبيات المرحلة السابقة وبلورة استراتيجية فعالة للتعامل مع استحقاقات المرحلة المقبلة، وأن تصرف البرادعى يوحى بأنه عاد ليستقر هذه المرة وبات جاهزا لأداء دور مازال ينتظره. ولأن «ظاهرة البرادعى» لم تكن، فى تقديرى الشخصى، مجرد فقاعة وانفجرت، أعتقد أنه مازال بوسع الرجل أن يستعيد لحالة الحراك السياسى جانبا كبيرا من الزخم الذى فقدته، وأظن أن أخطاء النظام الحاكم وخطاياه المتكررة تساعده كثيرا على ذلك. ولمعالجة سلبيات المرحلة السابقة، يتعين على البرادعى أن يشرع على الفور فى حسم قضايا كثيرة، لاتزال معلقة، فى مقدمتها: علاقته الملتبسة بالجمعية الوطنية للتغيير، وبأمانتها العامة، وبالحملة الشعبية لترشيحه رئيساً، وبالأحزاب والقوى والحركات السياسية والاجتماعية التى يعج بها الشارع السياسى. وعليه، فى هذه الحالة، أن يختار بين ثلاثة بدائل، الأول: أن يعتبر نفسه داعية للتغيير ورمزاً له، مما يفرض عليه الوقوف على مسافة واحدة من القوى الموجودة على الساحة والتعامل معها على قدم المساواة. والثانى: أن يعتبر نفسه قائداً ميدانياً لحركة التغيير، بصفته رئيساً للجمعية الوطنية، وعليه فى هذه الحالة أن يسعى لإعادة تشكيل الجمعية وتوسيع عضويتها لضم القوى التى ثبت من خلال الممارسة أنها تقف فى خندق التغيير. والثالث: أن يعتبر نفسه زعيماً سياسياً، وفى هذه الحالة عليه أن يشكل تياره السياسى الخاص ويحدد شروط الانضمام إليه ويتولى قيادته التنظيمية بنفسه. وفى جميع الأحوال فسوف تتوقف قدرته لوضع استراتيجية فعالة للتعامل مع متطلبات المرحلة المقبلة على البديل الذى سيقع عليه الاختيار فى نهاية المطاف. الشرط الثانى: أن تقوم القوى السياسية المختلفة، خاصة المشاركة فى الجمعية الوطنية للتغيير، بمراجعة نقدية لممارساتها السابقة بهدف استخلاص دروس مستفادة لتصحيح مسيرة حركة التغيير. ولست هنا فى وضع يسمح لى بإعطاء دروس لأحد، ولا أدعى لنفسى هذا الحق، لذا يتعين لكى تكون المراجعة النقدية المرغوب فيها مثمرة، أن تنطلق ذاتياً من داخل كل حركة على حدة. وما لم تتمكن هذه القوى من إصلاح نفسها من داخلها، فلن يكون بوسع أحد فرض الإصلاح عليها من خارجها. وقد أبرزت ممارسات المرحلة السابقة أوجهاً سلبية عديدة عكست حرص الحركات السياسية المختلفة على مراعاة مصالحها الخاصة، التى عادة ما تكون مرتبطة بطموحات أشخاص وليس بمصالح جهات، بأكثر من حرصها على دفع قضية التغيير ككل. لذا بات من الضرورى تنقية أجواء العمل السياسى فى مصر من المدعين والمغامرين. وحتى لا نظلم أحداً، يتعين الاعتراف بأن جوهر المشكلة يكمن فى وجود خلل بنيوى فى الحركة المطالبة بالتغيير بأكثر مما يتعلق بانحراف فى السلوك الشخصى للقيادات. فالجمعية الوطنية للتغيير، على سبيل المثال، تضم أحزابا وقوى وحركات سياسية رسمية وغير رسمية، مختلفة الأوزان والأحجام، كما تضم شخصيات عامة مختلفة الأفكار والتوجهات، مما يجعل عملية اتخاذ القرارات وتنفيذها مسألة غاية فى التعقيد. ولأن النشاط الميدانى مرشح للتصاعد فى المرحلة المقبلة، باعتباره أكثر الوسائل فاعلية للضغط على النظام، فإن الأمر بات يتطلب حشداً وتعبئة، وانضباطاً فى السلوك لا يتأتى عادة إلا إذا توافرت قيادة ميدانية موحدة تحظى بالإجماع. لذا من الطبيعى أن يثير هذا النشاط مشكلات معقدة يحتاج حلها إلى وجود هياكل تنظيمية واضحة المعالم وفعالة. إن الاعتراف بوجود خلل بنيوى، قد يتطلب تصحيحه حلولاً معقدة بعض الشىء، ينبغى ألا يصرف انتباهنا عن حقيقة الخطر الكامن فى السلوك غير المنضبط لبعض القيادات، التى لا يعنيها من قضية التغيير سوى الظهور فى وسائل الإعلام حتى ولو جاء ذلك على حساب قضية التغيير نفسها. وقد أثبتت ممارسات الشهور الماضية أن القيادات الأعلى صوتا والأكثر حماسا للتغيير ليست بالضرورة هى الأكثر إيمانا به أو حرصا عليه. لذا تبدو الحاجة ماسة إلى مدونة سلوك يلتزم بها الجميع وتخضع المخالفين لقواعد حساب وعقاب. لا تتوافر وسيلة يمكن من خلالها التعرف بدقة على موقف القوى السياسية والجماهير من «الظهور الثانى» للبرادعى، أى على مدى اتفاقهم أو اختلافهم مع ما جاء فى رسالته إليهم، لكننا نأمل أن يكون هذا التفاعل إيجابياً، إذا تبين أن البرادعى حسم أمره وقرر البقاء فى مصر لقيادة الحركة المطالبة بالتغيير ميدانياً. وعلى أى حال فهناك شىء واحد على الأقل بات الآن مؤكداً، وهو أن البرادعى أصبح رقماً لا يمكن تجاهله فى معادلة السياسة الداخلية فى مصر، خصوصاً فى ظل حالة الضعف الشديد التى توجد عليها مختلف القوى السياسية، رغم تسببه فى إهدار فرصة ذهبية أتيحت له فى البداية لتحريك الأغلبية الصامتة وتنظيم صفوفها. غير أن الإنصاف يفرض علينا فى الوقت نفسه ألا نغمط حق رجل استطاع أن يلقى بحجر كبير فى مياه الحياة السياسية الآسنة فى مصر، وهو ما لم يستطعه أحد غيره. صحيح أنه كان بوسع البرادعى أن يقدم لقضية التغيير أكثر مما قدم بالفعل، لكن اللوم لا يقع عليه وحده وإنما على عاتق نخبة لايزال الجزء الأكبر منها يتابع ما يجرى من موقع «الأغلبية الصامتة». فلاتزال رموز مصرية كبيرة، لها ثقل علمى وأدبى واضح فى كل المجالات، تلوذ بالصمت، ولا نعرف ماذا تنتظر لتبدأ التحرك، وهى مطالبة الآن بطرح وجهة نظرها بنفس القوة. أحلم بيوم تتمكن فيه رموز الأمة كلها، بصرف النظر عن مجالات تخصصها أو انتماءاتها الفكرية والسياسية، من عقد اجتماع يضمها معاً فى قاعة واحدة، وأن تتمكن من إصدار بيان تعلن فيه رفضها لما جرى فى انتخابات مجلس الشعب الأخيرة وترسم لمصر خريطة طريق جديدة نحو المستقبل. ولأن مهمة عظيمة كهذه أكبر من طاقة شخص ومن قدرة تنظيم بمفرده، خصوصاً فى ظروف بائسة كتلك التى تعيش فيها البلاد، فلا يسعنى إلا أن أوجه من هذا المنبر دعوة إلى كل الرموز المخلصة للمشاركة فى رسم خريطة طريق لمصر المستقبل. لا أطالب هؤلاء بالانضمام إلى «جمعية التغيير»، أو الاعتراف بالبرادعى قائداً أو رئيساً، وإنما آمل أن يفصحوا عن رغبتهم فى التغيير، وأن يعبروا عن هذه الرغبة بالطريقة التى يرونها ملائمة.. فهل هذا كثير؟