يقف المراقب بدهشة، أمام من لا يزال يسأل بعد ثلاثين عاماً من العلاقات الخاسرة بين الكيان الصهيونى والنظام المصري، عن ماذا يعنى مصطلح التطبيع؟ ويبدو أن إصرار البعض ممن يلح على هذا السؤال نابع من عدة احتمالات، الأول أنه بالفعل قد اختلطت عليه الأمور والقضايا، بحيث لم يعد يميز بين ما هو علاقة صارخة مع العدو وبين ما هو دون ذلك أو أنه فى احتمال ثانى يعلم ويدرك ويميز بين (التطبيع) وبين غيره من المفاهيم ولكنه ولغرض فى نفس يعقوب (الرسمي) أو الصحفى أو السياسي، يتغابى علينا، أو فى احتمال ثالث أن الأمور والعلاقات مع الكيان الصهيونى قد تطورت وانهارت صناعة الأمة كلها إلى الحد الذى قلب قناعات ومسلمات كانت راسخة، ومن بينها هذا المصطلح، وأياً ما كان أيهما هو الاحتمال الصحيح؛ فإننا ودرءاً للفتنة المفتعلة التى أطلقها البعض من مثقفينا حول المقصود بالمصطلح، نرى أن التطبيع لغة ووظيفة يعنى وببساطة "العلاقات الطبيعية بين كيانين طبيعيين على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية كانت مقطوعة لظروف ومصالح مختلفة والآن يعاد تطبيعها بعد أن تم تصحيح تلك الظروف المرتبطة عادة بالحقوق والمصالح القومية لكلا الكيانين" وفق هذا التعريف، ما تم بين إسرائيل ومصر منذ العام 1979، لم يكن (تطبيعاً)، بل اختراقاً، وهيمنةً، وفرض تسوية وتلطفاً أسماها البعض (هدنة سياسية) بين حربين، وذلك لأنه لم تكن هناك أصلاً (علاقات طبيعية) تم قطعها بين الدولتين (مصر وإسرائيل) والآن يراد إعادتها أو تطبيعها ولكن كانت ولا تزال هناك حروب وصراعات واعتداءات بأشكال متعددة ليس بالضرورة بالحرب المسلحة، هيمنة واختراق، ذلك هو التعبير الأدق إذن لتوصيف طبيعة ما جرى بين النظام المصرى والكيان الإسرائيلي، إلا أنه ومن باب الخطأ الشائع استخدام لفظ "التطبيع" ورغم خطأه اللغوى والمنهجى إلا أننا سنستخدمه هنا تعبيراً عن تلك العلاقات والتعاملات غير المتكافئة بين الدولتين (مصر وإسرائيل) على الأصعدة السياسية والإعلامية والاقتصادية المختلفة، وهو مفهوم (أى التطبيع) قد يفهم أو يجد تفسيره فى علاقات مؤسسات الحكومة المصرية بمؤسسات هذا الكيان بحكم الضرورة السياسية ولكنه لا يجد تفسيراً أو تبريراً حين يتصل الأمر بالمثقفين والسياسيين والقوى الشعبية المستقلة، إنه فى ظنى وبعض الظن ليس إثماً يعد تفريطاً وتنازلاً، والبعض يسميه خيانة، رغم تحفظنا على فكرة أو نظرية التخوين أصلاً، إلا أنه طالما ليس هناك ثمة ضرورة سياسية أو مصلحية لهذه القوى والهيئات فى التعامل مع كيان لا يزال عدوانياً، وطالما أن أهل فلسطين أنفسهم (نقصد بهم طبعاً القوى المقاومة ومثقفيها) يطالبون بعدم تقديم هذا التنازل المجانى "أى التطبيع" وبالتحديد على المستوى الصحفى والإعلامى لعدو يستفيد منه، وأن معرفة العدو أو مساندة الشقيق الفلسطينى لا تتطلب بالضرورة هذه التنازلات أو ذلك التفريط المجاني، إذن ليس هناك ضرورة لهذا التطبيع الذى هو مصلحة وديناً وسياسة يعد (حرام) وفق للرأى الدينى أو التقييم السياسي. على أية حال ... إن التطبيع مع إسرائيل، يتساوى لدينا بالفعل الفاضح وفقاً لمصطلحات علم الجريمة، وهو لم ينتج عبر تجربته الطويلة مع مصر تحديداً (وكذا مع الأردن) سوى الخسائر: المعنوية والمادية والسياسية والاقتصادية، وكانت إسرائيل دائماً هى التى تكسب وتتقدم وتنتصر، أم المطبعون فكانوا يتراجعون سواء على مستوى التنمية أو المصالح القومية لشعوبهم وأمتهم، والحال المصرى يغنى عن أى بيان. * ولكى ندلل على هذه الحقائق، دعونا نفتح سوياً، وبالوثائق والمعلومات الدقيقة ملف التطبيع المصرى الإسرائيلى ونسأل قبل وبعد أن نفتحه: ما الثمن؟؟ وما المكسب الذى جنيناه بعد ثلاثين عاماً من التطبيع الاقتصادى والسياسى والثقافي، وأحياناً الصحفى والإعلامي؟؟ إن هذا الملف الذى نفتحه هو جزء من عمل موسوعى سيصدر لنا قريباً عن (قصة التطبيع بين مصر وإسرائيل فى ثلاثين عاماً) فماذا عنها؟ ذلك ما سنحاول أن نقدمه مختصراً فى ثلاثة مقالات متتالية. يحدثنا التاريخ أنه قد تم افتتاح سفارة إسرائيل بالقاهرة يوم 26/2/1980 بعد أكثر من عام ونصف على توقيع اتفاقات كامب ديفيد 1979 ولقد تنوعت العلاقة بين الحكومة المصرية وإسرائيل وأضحى لها جوانب عديدة اقتصادية وسياسية وثقافية ، وسياحية ، وما يهمنا فى هذه الدراسة هو الجانب السياسى أو الدبلوماسى منها ، وهو الجانب الذى تولته سفارة إسرائيل بالقاهرة ، تلك السفارة التى ظلت لفترة وجيزة فى أحد الشوارع الجانبية بمنطقة الدقى بالجيزة ، أوائل الثمانينات ، ونتيجة للتحركات الشعبية الرافضة لوجودهم وأيضاً لاعتبارات أمنية إسرائيلية ، تم نقلها إلى الدورين الأخيرين (أعلى العمارة المكونة من 15 طابق) فى العقار رقم 6 شارع ابن مالك بالجيزة والذى صار اسمه (شارع الشهيد محمد الدرة) تعبيراً من المجلس المحلى بالجيزة عن التضامن مع انتفاضة الشعب الفلسطينى من ناحية ورفضاً منهم – كما أعلنوا فى قرارهم - لوجود هذه السفارة بحيهم من ناحية أخرى ، والتى سيضطر رجالهم إلى كتابة اسم الشهيد محمد الدرة على كل مراسلتهم مستقبلاً. ولقد تم اختيار الطابقين الأخيرين لاعتبارات أمنية بالأساس وربما لأسباب أخرى لم يفصح عنها من اختار العقار. هذه (السفارة) توالى على رئاستها ، وتبوأ موقع السفير بداخلها تسعة من رجال المخابرات ، وبالمناسبة فى داخل إسرائيل لا توجد غضاضة فى أن يتولى أمثال هؤلاء مواقع سياسية فلا فواصل هناك بين رجال الحرب ورجال الدبلوماسية ، وبين مستوطن ومجند ، فإسرائيل كما قال أحد كتابها الكبار(إزرائيل شاحاك) هى [جيش بنيت له دولة وليست دولة لها جيش] والمعنى مفهوم . هؤلاء السفراء على التوالى هم : 1 – إلياهو بن اليسار : وهو أول سفير لإسرائيل بالقاهرة ، وكان على صلة وثيقة بالرئيس السادات ، وشهد عملية اغتياله ، وتأثر كثيراً بها لاعتبارات الصداقة والعلاقات الدافئة ، وعلى يديه بدأت الخطوات الأولى لتطبيق الاتفاقات الموقعة فى كامب ديفيد 1979 ولقد أصدر كتاباً قبل وفاته 2001 حول تجربة وجوده فى مصر ذكر فيه العديد من الوقائع المهمة التى تحتاج إلى عرض خاص. 2 – موشيه ساسون : وهو يعد من وجهة نظر من أرخ للعلاقات المصرية الإسرائيلية ، مهندس هذه العلاقات ، ولقد أصدر كتاباً بعنوان (سبع سنوات فى بلاد المصريين) وروى فيه كيف نبذه الشعب المصرى وبخاصة النقابات المهنية واهتم به فقط وزير الزراعة المصرى د0 يوسف والى الذى كان يستضيفه فى قريته بالفيوم. 3 – شيمون شامير : وهو باحث مشهور ويعود له الدور الأكبر فى بناء استراتيجية إسرائيلية للتدخل والاختراق الثقافى لمصر ، حيث أنشأ عام 1982 المركز الأكاديمى الإسرائيلى بالقاهرة [ يقع مقر هذا المركز فى 92 شارع النيل خلف شيراتون القاهرة وأعلى منزل الكاتب المصرى الكبير محمد حسنين هيكل ] ، وهذا الرجل تولى منصب السفير بعد ان كان قد نسج سلسلة من العلاقات مع بعض رجال الثقافة والأدب والتاريخ (مثل عبد العظيم رمضان وتحسين شنن ، وعبد المنعم سعيد ولطفى الخولى وعلى سالم وأمين المهدى وغيرهم) ودوره فى تولى منصب السفير يؤكد بوضوح حجم التداخل بين السياسى والثقافى لدى إسرائيل. 4 – جبرائيل واربورج : وهو أحد كبار المتخصصين فى الشأن المصرى ، ومثله مثل (شيمون شامير) ، اذ بعد توليه لمنصب مدير المركز الأكاديمى الإسرائيلى بالقاهرة لفترة هامة ، شهدت عملية شراء واسعة للآثار وللكتب اليهودية المصرية تحت زعم عمل مكتبات للاطلاع داخل المعابد اليهودية بالقاهرة ، بعد ذلك قام بتولى منصب السفير فاهتم أيضاً بتهويد تاريخ وآثار مصر عبر أساليب مبتكرة. 5 – ديفيد سلطان : وكان يتمتع بخبرة جيدة فى محاولة جذب المثقفين المصريين ممن آمن بالتطبيع ، وكان صديقاً شخصياً للكاتب الراحل لطفى الخولى ولعلى سالم وصلاح بسيونى ومصطفى خليل وعبد المنعم سعيد ، والمخرج التليفزيونى غير المعروف نبيل فودة الذى حاول تأسيس جمعية للصداقة المصرية – الإسرائيلية فرفض القضاء طلبه ، فضلاً عن غيره من رجال تحالف كوبنهاجن وجمعية القاهرة للسلام. 6 – تسفى مازئيل : والذى استمر عمله فى مصر 4 سنوات وكان هذا السفير الأضعف حيلة فى مجال نشاطه السياسى وجاءت فترة عمله فى وقت حرج ، حين انتصرت فيه المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله (يوم 25/5/2000م) ثم الانتفاضة الفلسطينية (28/9/2000) التى لاتزال مشتعلة ، وتعاطف الشارع المصرى معها بل وتعاطفت بعض القيادات الحاكمة ، جاءت كل هذه الأحداث لتزيد من حصار السفير وطاقمه،الأمر الذى دفعه لطلب سرعة انهاء خدمته فى مصر. 7 – جدعون بن عامى : وقد تم تعيينه وسط احتجاجات شعبية مصرية واستياء عام لأنه جاء فى نهاية شهر يناير 2002 فى ذروة الانتفاضة الفلسطينية والتى كان متوقعاً ان تؤثر فى مسألة العلاقات الدبلوماسية الا أن الأمر لم يسر وفقاً لحركة الواقع ، وتم تعيين هذا السفير وكان يبلغ عند تعيينه من العمر 63 عاماً وكان يشغل نائب رئيس مركز الأبحاث السياسية فى وزارة الخارجية الإسرائيلية وهو من أبرز الخبراء فى الشئون العربية ومن الذين عملوا مع الموساد الإسرائيلى بوضوح فى مجال الدراسات ، وهو من المتعاونين مع تحالف كوبنهاجن الشهير الذى أنشأه مجموعة من المثقفين العرب والجنرالات الإسرائيليين السابقين المؤمنين بالتطبيع (عرباً ويهوداً) عام 1998. 8 – إيلى شاكيد : متخصص فى الشئون الاقتصادية وبخاصة اتفاقيات الكويز التى ساهم بدور فعال فى توقيعها مع مصر نهاية (2004 – 2005) . 9 – شالوم كوهين: وهو يهودى من أصل تونسى وتم تعيينه عام 2005 وهو مهتم بالتطبيع الثقافى ومطالبته المستمرة بزيادة وتيرة التطبيع مع إسرائيل، ومن مواقفه المعروفة زيارته لوزير الثقافة المصرى فاروق حسنى واعتراضه لديه على عرض فيلم عادل إمام "السفارة فى العمارة" ومطالبته بأن يتم إيقاف عرضه لأنه – على حد قوله – يسيء للعلاقات المصرية الإسرائيلية ويشوه دور السفارة الإسرائيلية فى القاهرة ولا يزال هذا السفير مستمراً حتى اليوم ومن المحتمل أن يتم استبداله قريباً لأنه كان من رجال الحكومة الإسرائيلية السابقة وقريب الصلة من تسيبى ليفني.