درَج بعض الأنظمة السلطوية فى العالم العربى على قمع حركات المعارضة المدنية والدينية، وذلك حتى بات القمع والرغبة فى الإقصاء، إيديولوجيا بحد ذاتها وإكسير حياة لبقاء لهذه الأنظمة فى السلطة. ولمّا كانت الحركات الإسلامية هى الأكثر حضوراً وتأثيراً فى المجتمعات العربية، فقد نالت القدر الأعظم من الإقصاء، وذلك ليس فقط بسبب إيديولوجيتها الدينية التى قد تتعارض مع بعض أفكار ومبادئ الدولة الحديثة، وإنما أيضا بفعل حضورها الاجتماعى والسياسى القوى الذى قد يمثل تهديداً وجودياً لبعض الأنظمة القائمة. وابتداءً يمكن رصد ستة ملامح أساسية تسِم إيديولوجيا إقصاء الإسلاميين فى العالم العربي، أولها أنها إيديولوجيا تبريرية، فتارة يتم الإقصاء بحجة العنف والتطرف الكامن فى عقل الإسلاميين بشتى أنواعهم، وهنا لا فرق لدى بعض هذه الأنظمة بين سيد قطب وراشد الغنوشي، أو بين أسامة بن لادن وسعد الدين العثماني، فالجميع سواء فى المنبت والمنهج. وتارة أخرى يتم الإقصاء بذريعة عدم تناغم أفكار الإسلاميين مع قيم الديموقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، كما هى الحال مع جماعة «الإخوان المسلمين» فى مصر. وتارة ثالثة يتم الإقصاء تحت مظلة عدم تساوق الإسلاميين مع مشاريع السلام فى المنطقة والتخوّف من إيديولوجيتهم المقاوِمة التى قد تسبب حرجاً لهذه الأنظمة دولياً وإقليمياً على غرار الحال مع «إخوان» الأردن. ثانيها، أنها إيديولوجيا مضطربة حيث تخلط بين الأسباب والنتائج، فأغلب إسلاميينا وإن كانوا يعانون نقصاً فى فهم وتطبيق القيم الديموقراطية، فإن تلك نتيجة وليست سبباً لقمعهم. فكيف يمكن للكوادر الإسلامية أن تؤمن بقيم الديموقراطية وتتشرَب ثقافتها، وهى تعيش فى بيئة قمعية تنتهك هذه القيم ولا تحترمها؟ وكيف يمكن لمحاضن التربية داخل الحركات الإسلامية أن تعلّم أبناءها حقوق الإنسان والمواطنة واحترام الآخر، وهى تعيش تحت وطأة القمع المتواصل والتشكيك فى نواياها؟ وكيف يمكن لهذه الحركات أن تفلت من بين أصابع جناحها المحافظ، فى الوقت الذى تتم فيها مطاردة واعتقال أنصار التيار الإصلاحى داخلها من أجل إظهار هذه الحركات وكأنها تدعو للرجعية والانغلاق؟ وذلك على غرار ما يحدث مع جماعة «الإخوان المسلمين» فى مصر التى شهدت أخيراً أكبر موجة اعتقالات خلال ربع قرن طالت بعض ممثلى التيار الإصلاحى داخل الجماعة وأبرزهم خيرت الشاطر ومحمد على بشر وعبدالمنعم أبو الفتوح. ثالثها أنها إيديولوجيا تعجيزية، فما تطالب به بعض الأنظمة العربية حركاتها الإسلامية يتجاوز مجرد تحديث أطرها الفكرية ومشاريعها السياسية، كى يصل إلى حد المطالبة بتغيير جلدها كلية كى تتحول مسخاً لا يجذب أحداً، ويُفقدها قواعدها التنظيمية. وقد وصل الأمر ببعض هذه الأنظمة إلى اشتراط تخلّى الإسلاميين عن مرجعيتهم الفكرية والإيديولوجية كشرط مسبَق لدمجهم فى العملية السياسية. رابعها أنها إيديولوجيا تعطيلية لأى تحول ديموقراطى ناجز فى العالم العربي، ذلك أنها تختزل اللعبة السياسية فى مجرد الصراع مع الإسلاميين، وذلك من دون الذهاب أبعد من ذلك فى ما يخص دعم البدائل غير الدينية وإفساح المجال أمامها لمنافسة الإسلاميين وتجذير ثقافة الديموقراطية وتداول السلطة. ويظل ملفتاً أن الأنظمة العربية التى عملت، ولا تزال، على إقصاء الإسلاميين (وربما استئصالهم) هى التى فشلت فى إحداث تحول ديموقراطى حقيقى كما هى الحال فى مصر وتونس وسورية، والعكس صحيح كما هى الحال فى لبنان والكويت والمغرب التى تشهد قدراً ملحوظاً من التحول الديموقراطي. خامسها أنها إيديولوجيا انتهازية حيث ترتكن على تحولات البيئتين الإقليمية والدولية من أجل تحديد استراتيجياتها حول كيفية التعاطى مع إسلامييّها. فالنظام المصرى على سبيل المثال سمَح ببعض الانفتاح لجماعة «الإخوان» طيلة عامى 2004 و 2005 وذلك بفعل وطأة الضغط الخارجى وما سمّى آنذاك ب "ربيع الديموقراطية" فى العالم العربي، ولكنه سرعان ما انقلب على عقبيه وبدأ استراتيجية منظمّة تستهدف إقصاء الجماعة، وصلت أخيراً إلى حد الاستئصال الجزئي. وهو أيضا أقرب لما حدث مع «إخوان» الأردن واليمن خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة. والآن ثمة شعور لدى هذه الأنظمة بأن الوقت قد حان للإجهاز على ما تبقى من نشاط إسلامييّها، أو على الأقل تحييدهم سياسياً واجتماعياً، وذلك للاستفادة من تبعات تأزّم "النموذج الإيراني" الذى ظل يمثل حلماً أصيلاً لدى كثير من الإسلاميين العرب حتى أزمته الأخيرة. سادساً أنها إيديولوجيا جامدة وغير مرنة، فهى لا تقبل إعادة النظر فى مقولاتها ومنطلقاتها الأساسية، وهى لا ترضى بأى بديل آخر عن إقصاء الخصوم وإن تغيّرت أفكارهم وطروحاتهم الفكرية والسياسية. وهو ما قد يوحى بأن ثمة مشكلة لدى هذه الأنظمة تتجاوز مجرد التخوف من الإسلاميين كأفراد وجماعات، كى تصل إلى حد مخاصمة الفكرة ذاتها ومجابهة كل من يمثلّها. فعلى سبيل المثال إذا كانت للنظام المصرى مشكلة حقيقية مع جماعة «الإخوان المسلمين»، فإنه لم يسمح لمن هم أكثر منها انفتاحاً وديموقراطية بأن يمتلكوا وجوداً شرعياً، كما هى الحال مع حزب "الوسط الجديد" الذى يناضل من أجل الحصول على رخصة سياسية منذ نحو ثلاثة عشر عاماً من دون جدوى. وإذا كانت للنظام التونسى تجربة سلبية مع حركة "النهضة" بزعامة الغنوشي، فإنه يمنع غيرهم من الإسلاميين التقدمييّن أمثال صلاح الدين الجورشى وأحميدة النيفر وخالد الطراولى من ممارسة النشاط الحزبي. ومع التسليم بوجود بعض الخلل فى طروحات الإسلاميين ومشاريعهم الفكرية، ناهيك عن أخطائهم السياسية الفاقعة، فإن ما يخصّ المجتمعات العربية من تبنى مثل هذه الإيديولوجيا يظل الدافع الرئيسى حول تقييمها والحكم على مدى نجاعتها. وهنا يمكن رصد أربع ملاحظات أولية، الأولى أن مثل هذه الإيديولوجيا لم تعد مقنِعة للكثيرين وذلك لثلاثة عوامل رئيسية، أولها أنها، وبعكس المأمول منها، تمثل عنصر قوة ودفع للإسلاميين على المستوى الشعبى وفق مبدأ "الضحية والجلاد" الذى يزيد من حضور الحركات الإسلامية ويرفع رصيدها التنظيمي. وثانيها، أن مثل هذه الايديولوجيا الاقصائية لا تنسحب على الإسلاميين فحسب، وإنما على كل القوى السياسية المناوِئة للأنظمة القائمة، ما يفقد هذه الايديولوجيا الكثير من مصداقيتها ووجاهتها. وثالثها، افتقاد هذه الإيديولوجيا للتأييد الشعبى الذى بات أكثر وعياً بغائيتها وأهدافها الخفية. الملاحظة الثانية أن إيديولوجيا كهذه تظل مكلفة للغاية مجتمعياً وسياسياً، فإقصاء الإسلاميين لا يمثل انحساراً لمفاهيم الاعتدال والمشاركة السياسية السلمية فحسب، وإنما يمثل أيضا دافعاً قوياً لنشر بذور التشدد والتطرف لدى آخرين لا يثقون فى جدوى العمل السلمي، ويتندرون على وداعة أقرانهم "المعتدلين". وستظل الحالة الجزائرية أفضل تجسيد لمثل هذه الأطروحة، فى حين تشهد مصر حالياً موجة من تفكيك الخلايا التكفيرية والجهادية، ما قد يعيد إلى الأذهان تجربة "الحصاد المرّ" التى عاشتها البلاد خلال حقبتى الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. الملاحظة الثالثة أن هذه الإيديولوجيا تبدو محرّضة لكثير من الإسلاميين على إتباع نفس منهج الإقصاء تجاه بقية اللاعبين والمنافسين، بخاصة إذا ما وصلوا الى السلطة. وهو ما يتضح جلياً فى حالة حركة «حماس» التى تنتهج الآن فى قطاع غزة بعضاً مما كان يُمارَس معها تحت حكم حركة "فتح". أما الملاحظة الرابعة، فهى وقوع بعض النخب العربية فى فخ هذه الإيديولوجيا، واستسلامها لمنطق إقصاء الإسلاميين، وهو ما يضع هذه النخب فى الخندق نفسه مع السلطات الحاكِمة، وبذلك تضيع أى فرصة ممكنة للوساطة بين الإسلاميين والأنظمة العربية.