كانت ألسنة اللهب تتصاعد، وأعمدة الدخان تعلو، وهي إن بدت مخيفة للمارة، فهي أكثر رعبا لمحمود عمر، الشاب الذي ترك الصعيد بحثا عن لقمة العيش في القاهرة، تلك اللقمة التي احترقت مساء السبت الماضي، مع ما حدث لعقار حي الهرم. ينظر الشاب للمبنى المكون من 14 طابقا، كان يعيش بأحدها رفقة زملاء العمل في مخزن الأحذية، أسفل المبنى، وكله أسى على ما حدث وخوف مما سيحدث. لدى محمود 18 عاما، وأسرة صار عائلها بعد وفاة الأب، ترك مركز أبو قرقاص بالمنيا، حين علم بشأن ذلك العمل، عندما أخبره مقربون منه به، فجاء القاهرة وبدأ العمل بمصنع الأحذية، متنقلا بينه وبين المخازن المستقرة أسفل برج «الرحمن» وكانت أيام عمله تدر له دخلا مقبولا. ومع احتراق المبنى وتصاعد ألسنة اللهب كان ضمن المتفرجين ممن لا يملكون تجاه حريق بمثل هذا الحجم أي تصرف: «كنا هنعمل إيه، الحريق لما هبت جرينا على المبنى لكن مكنش في إيدينا حاجة». على غير ما أشيع، يملك صاحب العقار ومخازن الأحذية مصنعا غير بعيد عن العقار المحترق، يصنع فيه الأحذية، وكانت مهمة الشاب تولي عملية نقل البضائع من المصنع إلى المخزن، أو من المخزن إلى المحال التجارية: «وصاحب المكان بأمانة ليه إيد على الناس كلها، أكل وشرب، وفي المواسم بيراضينا، وعشان كده خايف نخسر الشغل، بقالي هنا 8 أشهر مرجعتش بيتي أصلا». كان أحد أدوار العقار مخصصا للعاملين، حيث يسكنون الطابق الأخير، ينامون فيه ويقضون أوقات راحتهم به، وهناك كافة متعلقاتهم الشخصية، لكن ذلك ليس بالكثير، إذ إن الأسوأ بالنسبة لهم فقد فرصة العمل، وهم لا يعرفون مصيرا لأنفسهم في ظل ما يحدث: «الحماية المدنية هنا مبتطفيش عشان قالوا خطر إن المياه تيجي على العمدان، لكن سمعنا إن المبنى هيتهد ودي هتبقى كارثة». وفقا لمصادر بمحافظة الجيزة، فإن هدم العقار يعود قراره للجنة هندسية تتولى مراقبة الوضع، ودراسة حال المبنى، الملاصق للدائري، ويترقب رجال الحماية المدنية الذين يحيطون بالمكان أي تطورات قد تحدث: «بقالي تلات سنين شغال هنا، لقمة عيشي اتحرقت كده، ومش عارف هعمل إيه» قالها كمال سيد، الذي يعمل بالمخزن، ولديه 4 إخوة يكبرهم سنا، وينفق عليهم بعد مرض والده: «برضه جيت من المنيا، وشغال والدنيا كانت ماشية، إحنا بس على أمل إن الحريقة تخمد وميحصلش حاجة للمبنى، ونرجع لشغلنا». يعرف العاملون في المصنع والمخزن أن خسارة كبيرة لحقت بصاحب عملهم، وأنه ربما معرض لعقاب قانوني ينتظره. ومنذ الحريق وهم ينامون الليل إما في سيارات المخزن، أو على أحد الأرصفة، مثلما فعل «محمد» صاحب ال17 عاما، وله ثلاثة إخوة ينفق عليهم من عمله بالقاهرة: «مبنعرفش ننام أصلا، ولو نمنا ففي الشارع، ومش عارفين لحد إمتى هنفضل كده» ولم يسبق للصغير الذي ترك الدراسة منذ سنوات أن عمل من قبل إلا في الرخام: «ومرعوب من اللي هيحصل، محدش بيحب يخسر لقمة عيشه». لم يكن أحد من العمال داخل المبنى لحظة الحريق، كان كثير منهم بالمصنع، وآخرون في أعمال أخرى، أحدهم كان في مشوار خاص به، عاد مع الاتصالات المكثفة من زملائه، وما يزال يرتدي نفس الملابس التي خرج بها، لكنه كان محظوظا بوجود صديق له في القاهرة فبات في منزله بعد الحريق لساعات ثم عاد لزملاء عمله ولم يفارقهم حتى الآن: «شغال سواق هنا بقالي سنتين، بنقل شغل من المصانع لهنا ومن المخزن للمحلات».