ثلاثة أحداث كبيرة عرفها حقل القرصنة والهجوم الإلكتروني في الأسابيع الأخيرة تجعل قضية أمن الشبكة العنكبوتية العالمية محور اهتمام بالغ على المستوى الدولي أكثر من أي وقت مضى، حيث لم يعد مفهوم الحرب الإلكترونية يسري فقط على عمليات التجسس لأغراض اقتصادية وعسكرية فقط، بل إنه امتد ليشمل العديد من العمليات الجديدة التي تهدد مصالح الشركات الكبرى والمصارف الضخمة وقطاعات حكومية أساسية تدير الأمور الحياتية للدولة. الحدث الأول تمثل في شن القراصنة الإلكترونيين سلسلة من الهجمات ضد كبريات البنوك والمصارف الأمريكية، ليتعطل أكبر 15 بنكًا بالولاياتالمتحدة لمدة 249 ساعة إجمالية خلال الفترة منذ منتصف شهر فبراير وحتى نهاية شهر مارس الماضي. أما الحدث الثاني فكان تنفيذ واحدة من أكبر الهجمات الإلكترونية على الإطلاق، والذي وقع ضد شركة ''سبام هاوس'' كبرى الشركات الأوروبية العاملة في تقديم خدمات الحماية من الرسائل المتطفلة والاحتيالية غير المرغوب فيها، ووقع الهجوم خلال الفترة من 18 إلى 28 مارس الماضي، وهو ما أدى إلى بطء غير عادي في الاتصال بالعديد من مواقع الإنترنت، خاصة في أوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية. ويختص الحدث الثالث باستهداف مجموعة ''أنونيموس'' يوم 7 إبريل الجاري للعديد من المؤسسات والمواقع الحكومية والشخصية الإسرائيلية أبرزها: البورصة وبعض المؤسسات المصرفية ووزارة الدفاع وحسابات شخصية خاصة ببعض المسئولين الرسميين بإسرائيل، وذلك لتعاطف المجموعة مع القضية الفلسطينية وإحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية؛ وهو الحدث الذي كشف وجها جديدًا لعمليات الهجوم الإلكتروني الذي قد يتطور لاحقًا ليتمكن من شل حركة دولة ما. وتهدف عمليات القرصنة والهجمات الإلكترونية (تعرف باسم الهجمات السيبرية) في الوقت الراهن إلى تحقيق أهداف متنوعة تتراوح بين هدف التجسس للحصول على معلومات عسكرية مهمة، وبين الوصول لمعلومات اقتصادية سرية لدى الدولة أو بعض المصارف والشركات الكبرى داخلها، وبين التسبب في تعطيل أو وقف العمل على شبكة الإنترنت في بعض المنشآت الحيوية، وبين اعتداءات تشل حركة المرور لبعض المواقع الإلكترونية.. وفي القلب من ذلك كله أضحى استهداف الاقتصاد مجالاً مفضلاً للهجمات السيبرية حيث يمكن تعطيل حركة رؤوس الأموال والتدفقات المالية عبر شبكة الإنترنت من خلال استهداف أو تعطيل البنوك والبورصات. ونظرًا للأضرار الجمة التي تلحق بالدول جراء هذه الهجمات السيبرية، فإن الولاياتالمتحدة تعتبر أن الحرب الإلكترونية أصبحت جزءا لا يتجزأ من الأمن القومي الأمريكي، بل ويعتبرها المسئولون العسكريون أنها حرب أمريكا القادمة، وذلك وفقًا لتصريح وزير الدفاع السابق، ليون بانيتا، في أكتوبر الماضي، خاصةً وأن الولاياتالمتحدة تعرضت لسلسلة كبيرة من الهجمات في السنوات الأخيرة طالت البيت الأبيض ووزارة الطاقة وشبكات الكهرباء ومحطات المياه وشبكات النقل وبعض المرافق والبنية الأساسية والمصارف والبنوك. ومع تصاعد الهجمات ''السيبرية'' ضد الولاياتالمتحدة، اعتبر مدير المخابرات القومية الأمريكية، جيمس كلابر'' في شهادته أمام الكونجرس يوم الخميس الماضي، أن ''الإرهاب الإلكتروني هو التهديد الرئيسي حول العالم لأمن الولاياتالمتحدة''، مستبعدا أن تشن الصين وروسيا المتقدمتان في هجمات السايبر هجمات مماثلة ما لم تكونا مهددتين بصراع''، وذكر أن ''تنظيم القاعدة وفروعه يواصلون التآمر لشن هجمات على أهداف أمريكية، وأن إيران تمثل خطرا في هذا المجال''.مغزى ذلك أن ثمة أعداء جددا يمثلون تهديدا لأمن الإنترنت الأمريكي، فقد كانت الصين خلال السنوات الأخيرة هي المتهم الأول، ولاتزال، لكن مع دخول فاعلين معنويين وشخصيين لم تصبح القضية مجالاً للنزاع بين دول يمكن التحاور بشأنها، ولذا اقترح الرئيس الأمريكي باراك أوباما في نفس اليوم وضع المزيد من الموارد لمواجهة السباق العالمي الجديد للتسلح الإلكتروني من خلال زيادة الإنفاق في ميزانية عام 2014 من أجل حماية وتعزيز الدفاع لشبكات الكمبيوتر الأمريكية ضد القرصنة المتزايدة من الصين وروسياوإيران وتنظيمات غير حكومية. ويهدف أوباما إلى زيادة الإنفاق الخاص بوزارة الدفاع لحماية شبكات الكمبيوتر بزيادة تقدر بحوالي 800 مليون دولار ليصل المبلغ الكلي إلى 4.7 مليار دولار، وذلك على الرغم من تضمين الميزانية الجديدة خفضًا عامًا في نفقات الدفاع. كما سيتم تخصيص 44 مليون دولار إضافية لوزارة الأمن الداخلي من أجل أبحاث الأمن الإلكتروني ومساعدة الشركات الخاصة والحكومات المحلية على تعزيز دفاعاتها الإلكترونية. وعلى الرغم من هذه الإجراءات الأمريكية المعقدة، فإن هناك من يعتقد أن واشنطن لن تتمكن بشكل سريع وحاسم من فرض زعامتها في الفضاء الإلكتروني. يقول روني جوفي الخبير التكنولوجي والمسئول البارز في شركة البنية الأساسية للكمبيوتر (نيوستار) إن ''حروب السيبر حروب غير متماثلة، وهي سباق تسلح لا يمكننا الفوز به لأنها المهاجمين يستخدمون مواردنا ضدنا''. وينبع ذلك من أن الهجمات السيبرية من الناحية التقنية يصعب تحديد النطاق الكامل لها أو المكان الذي شنت من خلاله أو تنفذ منه، وبالتالي يصعب تحديد من يقومون بهذه الأنشطة، فضلاً عن عدم وجود قواعد دولية وجهود مشتركة لمعرفة الفاعلين المعادين. ويرى بعض الخبراء الأمريكيون المتخصصون في مجال تكنولوجيا الإنترنت أن مكافحة الهجمات ''السيبرية'' باتت أشد صعوبة بالنظر إلى أن الهجوم كان يستلزم سابقًا حوالي 10 آلاف كمبيوتر لتنفيذ القرصنة أو التجسس، لكن الآن يمكن تنفيذ هجمات باستخدام مائة كمبيوتر فقط؛ وهو ما يعني تراجعا حادا في التكلفة التي يتحملها المعتدون، مقابل تكلفة مرتفعة للغاية لتحقيق الأمن السيبري. من جانب آخر، تسعى إدارة أوباما إلى التوصل لتفاهم ما مع الصين حول أمن الإنترنت، إذ أكد روبرت هوبرماتس، وكيل وزارة التنمية الاقتصادية والطاقة والبيئة الأمريكية، خلال المنتدى الأمريكي الصيني لصناعة الإنترنت الذي عقد بالصين يوم 9 أبريل الجاري، أن الهجمات الإلكترونية التي تقوم بها الصين ضد الولاياتالمتحدة تسهم في ضعف مصداقية الحكومة والشركات الأمريكية الكبرى بسبب خشية المستثمرين من فقدان حقوق الملكية الفكرية وهروب رأس المال من مجتمع الأعمال الأمريكي، قائلا: ''على الصين النظر بجدية في هذا الأمر وتقرير ما إذا ما كان في صالحهم استمرار هذه السياسات الضارة بالجميع''. ويقول هوبرماتس: ''إنه من الصعوبة التحديد الدقيق لمنشأ ومكان تنفيذ هذه الهجمات، لكن شركة أمن أجهزة الكمبيوتر الأمريكية أكدت في تقرير صدر في فبراير الماضي أن معظم الهجمات تأتي من الصين''. وبالمقابل ترفض الصين الاتهامات الأمريكية وتقول إن لا أساس لها من الصحة، وإنها ضحية لهجمات عديدة تنفذها الولاياتالمتحدة ذاتها؛ حيث رد نائب وزير الدولة الصيني لمكتب معلومات الإنترنت، تشيان شياكيان، بأن الصين ''لا تسيئ استخدام الإنترنت، وينبغي على الدولتين أن لا تعتدي أي منهما على الأخرى في استخدام موارد الإنترنت''، مضيفًا: ''تعرضت الصين لأكثر من 6600 هجمة وقرصنة إليكترونية من الخارج خلال الأربعة أشهر الأخيرة.. لايجب علينا عسكرة الفضاء الإلكتروني، فمثل هذه الهجمات تنتهك حقوق الدول الأخرى وتنتهك المعايير الأخلاقية''. ووفقًا لصحيفة ''كريستيان ساينس مونيتور''، فإن إدارة أوباما كررت لمرات عديدة وبشكل علني اسم الصين كعدو رئيسي في مجال التجسس والهجوم السيبري، وإن هذا الأمر كان محل نقاش لدى اتصال أوباما الهاتفي بالرئيس الصيني الجديد تشي جينجبينج. وترى الصحيفة أن إدارة أوباما تتعمد إثارة هذا الموضوع علانية للضغط على الصين والأطراف الدولية لبحث هذه القضية مع الدول والشركات الكبرى للعمل سويًا ضد هجمات السيبر. وتشير الصحيفة إلى أنه على أمريكا ترسيخ زعامتها في الفضاء الإلكتروني وتعزيز التعاون الدولي والحد من هجمات التجسس والقرصنة... وهذا يستلزم الدعوة إلى وضع معايير عالمية يقتنع بها الأصدقاء والخصوم. وبوجه عام تنحو إدارة أوباما إلى الاعتماد على استراتيجية تتكون من أربعة أركان لحماية أمن الإنترنت، يأتي في مقدمتها محاولة تقوية المعايير التي تم الاتفاق حولها بشأن أمن الإنترنت بين الدول المسئولة عن الهجمات. ويقتضي ذلك التوصل لما يشبه معاهدات الحد من التسلح كمثال لخفض الهجمات التي تؤذي المدنيين والبنية الأساسية والمؤسسات المالية؛ فقد طلبت إدارة أوباما في عام 2011 إعادة تكييف اتفاقيتي ''جنيف ولاهاي'' المتعلقتين بسير الحروب لتسريا أيضًا على الهجمات الإلكترونية التي تستهدف المنشآت المدنية. لكن هذا ليس أمرا سهلا بالنظر إلى غياب قواعد دولية واضحة حول أمن الإنترنت، والتطور التقني السريع، واختلاف الدول بشأن قضايا أساسية مثل: حق الخصوصية وحق الحرية وحق الحماية للإنترنت. ولذا يتمثل العنصر الثاني في محاولة استمالة الأصدقاء والدول ذات المصالح المشتركة للتوافق حول هذه المعايير، إذ تسعى واشنطن إلى تأسيس تحالف يضم بدايةً اليابان وألمانيا وبريطانيا واستراليا وكندا وكوريا الجنوبية، بحيث يصدر إعلان مبادئ عامة متفق عليها بين هذه الدول لأمن الإنترنت، ووضع معايير للمساءلة وآليات للتحقق الطوعي لبناء الثقة وضمان الامتثال لهذه المبادئ، على أن يتم جذب شركاء جدد لإضفاء شرعية دولية على هذه القواعد وتحقيز الدول على العمل سويًا للحد من هذه الهجمات. أما العنصر الثالث فهو ممارسة سياسة استباقية ضد دول مثل روسيا والصين وإيران، والتي وضعت خلال مؤتمر الاتصالات الدولي في شهر ديسمبر الماضي مجموعة من الإجراءات التي تقيد حرية استخدام الإنترنت، وهو الأمر الذي رفضته 55 دولة، فهذه الدول لابد وأن توضع في خانة الدفاع لا الهجوم من خلال وجود توافق واسع حول المعايير الواجب اتباعها، كما تشير صحيفة كريستيان ساينس مونيتور. وترى الصحيفة أن هذه الأمور تتطلب عنصرًا رابعًا هو الشفافية الأمريكية في الأطروحات الخاصة بأمن الإنترنت أمام الحلفاء والخصوم على السواء؛ حيث يقتضي ذلك توضيح عدة أمور بدقة مثل: ما الذي يمثل هجومًا سيبريًا بالتحديد؟ وما هي أنواع التجسس الاقتصادي؟ وما طبيعة الهجمات التي تتم ضد القطاع الخاص وتتطلب تدخل الحكومة؟!