على الرصيف جلس، واضعا ''العكاز'' الذي يساعده في المشي إلى جانبه، ناظراً إلى الميدان الممتد أمامه، يستمع إلى الهتافات التي كانت قد بدأت ترج المكان دون أن تتحرك شفتاه بتلك الهتافات. أوحت جلسته المستكينة وجسده المتكئ إلى الحائط أن تلك ليست المرة الأولى التي تطأ فيها قدماه أرض الميدان؛ وعلى الرغم من إعاقته التي بدت واضحة، إلا أن الإعاقة لم تشكل عائقا بالنسبة له كي يأتي للميدان في أي وقت طالما أنه يريد ذلك . '' لما بعوذ آجي الميدان هنا، بركب القطر آجي في أي وقت''.. هكذا قال ''محمد عبد اللطيف'' الذي اتضح أنه من محافظة أخرى غير القاهرة، فهو'' أنا معايا كارنيه بتاع المعاقين؛ فبركب القطر ببلاش وأروح في حته زي بورسعيد والقاهرة وأي مكان'' . ''محمد'' الذي جاء من بلدة ''كفر الدوار'' القريبة من محافظة الإسكندرية، كان كل هدفه هو أن يطمئن على حال البلد وميدان التحرير، وخاصة أنه من مرتاديه الدائمين وممن حضروا ثورة يناير من بدايتها - على حد قوله - '' أنا نزلت في الثورة الأولى والسنة اللي فاتت في الذكرى وكل مرة بقول الوضع هيتغير ويبقى أحسن ومبيتغيرش''. حكى ''محمد'' عن حالته التي تغيرت ككثير من المواطنين بعد الثورة سواء للأسوأ أو الأفضل'' الحالة من بعد الثورة مخنوقة، سواء عليا ولا على غيري، و أنا متضريتش لوحدي أد ما ولادي اتضروا''، مؤكدا أنه '' أنا أخدت معاشي قبل الثورة بشهر واحد، لأني كنت تعبت من الشغل، كان بقالي فيه 35 سنة وكنت بشتغل في شركة الغزل اللي في كفر الدوار''. إلا أن أكثر ما أزعج ''محمد'' هو حال ''محمود'' ابنه، لأنه'' ابني مخلص دبلوم صنايع وبيدرس في معهد قراءات دلوقتي وحافظ القرآن كله وبيخطب أحيانا في مساجد في الإسكندرية، ومع كل ده مش لاقي شغل، مع إنه متفوق جدا بس حاله واقف''، مضيفا أن '' محمود'' ابنه حصل على أكثر من جائزة عن قرائته وحفظه للقرآن الكريم من الدولة، لكن مع ذلك لم يحصل على عمل حتى الآن . لم تنحصر مشكلة ''محمد'' في عجزه عن توفير عمل لابنه فقط، بل أيضا القصور عن الإنفاق كما يجب على ابنتيه الأخرتين؛ إذ تبلغ إحداهما من العمر 14 عاما والأخرى 5 أعوام.
لعل حالة الحزن التي استبدت ب''محمد'' على البلد كان سببها الأمل الذي دخل لنفسه بعد أن قامت ثورة يناير، ثم ذهب هذا الأمل مع الوقت بسبب '' دلوقتي مبقاش عندنا حاجة، بقى فيه بلطجية ومبقاش فيه أمن ولا أمان، والناس مبقتش عارفة تعيش''، معلقا على أحد التصريحات الحكومية قائلاً '' وقال بيقولوا 3 أرغفة عيش لكل مواطن، طب دول يكفوا مين ولا مين؟!'' تعامل الدولة مع إعاقة ''محمد'' كانت أحد الأسباب التي جعلته مقتنعا أن حال البلد لم يتغير بعد؛ حيث روى تفاصيل حدوث إعاقته قائلاً: '' وأنا عندي 14 سنة سخنت، والسخونية قلبت بشلل، أو بيسموه التهاب سحائي، وكنا غلابة فطبعا متعالجتش، فخرجت من الإعدادية واشتغلت مع والدي في الشركة بتاعة الغزل لحد ما طلعت ع المعاش المبكر'' . إلا أن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن؛ فالأموال التي حصل عليها ''محمد'' في نهاية خدمته ضاعت في أكثر من مشروع لم ينجح وكانت النتيجة ''مبقاش معايا دلوقتي حاجة تقريبا، حتى بفكر آخد قرض عشان أصرف على ولادي'' . كما أوضح ''محمد'' أنه بحث كثيراً في مؤسسات الدولة المختلفة ليحصل على معاش استثنائي أعلى من ال800 جنيه التي يأخذها كمعاش، لأن نسبة إعاقته 75% لكنه فشل في الحصول على شيء . وعلى الرغم من كون ''محمد'' ثورياً بالمقاييس العادية إلا أن '' أنا مكنتش عايز ابقى هنا في الميدان، بالعكس أنا عايز الناس تهدى، بس هيهدوا إزاي طول ما الظلم لسة موجود''، مشيرا إلى '' يعني الشعب اختار محمد مرسي عشان يساعد المصريين في الظلم بتاع ال30 سنة اللي فاتت مش يزوده''، ناهياً حديثه بعبارة ''ربنا يستر ع البلد خاصة النهاردة وبكرة''.