بين شباب جيل السبعينيات وطفولة جيل الثمانينيات حقبة زمنية شكلت وجدان الكثيرين، نذكر ملامحها بصورها وموسيقاها وألحانها، نتذكر لكننا لم نكن ننسى، نتشمم عبقًا عتقته السنين، لكنه لم يتبخر. وفي صندوق الذكريات هذا، هناك صورًا لرجل ملأ آذاننا موسيقى وشغف ووطنية، حين غنى بحماس شدي حيلك يا بلد، وحين ألقى طرفة تتراقص مع الموسيقى على مسرح التليفزيون، وحين سخر من زي أبنائه على المسرح ممازحًا، وحين ضحكت روحه الطفلة وهو يغني. محمد نوح المغني الذي لم يكتف بالغناء، والملحن الذي أضاف للموسيقى موسيقاه، والذي عزف الأحداث على آلاته المحدودة، في قلب جريء وكريستال ومرسيدس واسكندرية كمان وكمان. هو ابن طنطا، الذي تخرج في كلية التجارة بجامعة الإسكندرية، ثم حصل على دبلوم معهد الموسيقى، ومن ثم أصبح أستاذًا زائرًا في المعهد نفسه، وفي معهد السينما، والذي درس التأليف الموسيقي في جامعة ستانفورد بأميركا، والذي برز لأول مرة في مسرحية سيد درويش الغنائية 1966، رحل عنا صباح أمس، بعدما انتصر عليه المرض، وقد بلغ عمره 75. رحل نوح الذي أثرى وجدان ثلاثة أجيال شابة بموسيقاه وخفة ظله غير المحدودة، وكان قد اختار الرحيل منذ ما يقرب من عقدين، حين اعتزل الظهور والفن والموسيقى، بالرغم من أن حقبة التسيعينيات حملت له نجاحًا كبيرًا، وبخاصة بعد صدور ألبوم الصبر الطيب لفريق ''رباعي نوح'' الذي ضم أبناءه، وحققت إحدى أغنياته ''مدد مدد'' نجاحًا كبيرًا على الرغم من كونها أغنية وطنية في وقت كان ذوق الأغاني الوطنية فيه يعد من الظواهر الغريبة، ورغم ذلك قرر الانزواء والتزم به لسنوات طويلة. لم تكن أغنيات نوح هي الشيء الثوري الوحيد لديه، فآراؤه أيضًا كانت ثورية وثائرة، فقد كان من مؤيدي الدكتور محمد البرادعي، على الرغم من تصريحه المثير في آخر لقاءاته التليفزيونية مع خيري رمضان أنه يؤمن به لدرجة أنه يستكثره على مصر. على مدى رحلة نوح، برز له ألبومان غنائيان فقط هما ''الصبر طيب'' و ''لا تنسانا''، لكن موسيقاه بقيت مع بقاء الأعمال التي لحن موسيقاها التصويرية، فقد لحن أفلام المهاجر، وأجدع ناس، وكريستال، وقبضة الهلالي، والسجين 79، وموسيقى مسلسل ألف ليلة وليلة، ومسرحية سوق الحلاوة. وقام نوح بالتمثيل في أكثر من مسرحية وفيلم، من أهمهم فيلم الزوجة التانية، وحسن وعزيزة، وقضية أمن دولة، والدخيل، والسيد البلطي، ومسرحية سحلب وغيرها. وكلل نوح مشواره بجائزة الدولة التشجيعية في الفنون عام 1991، وجائزة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لنفس العام، بالإضافة لجائزة الجمعية المصرية لفن السينما لعامي 1990، و1991.