سواء على مستوى الشارع أو وسائل الإعلام - بدا السواد الأعظم من المصريين رافضا لإهدار العقل وعرقلة النمو مدركين خطورة مخطط تحويل ثورتهم النبيلة إلى فوضى مدمرة وزمة مستمرة تحول دون تحقيق أهداف هذه الثورة ذاتها. وشأنهم شأن شعوب العالم المتحضرة فإن الغالبية الساحقة من المصريين تدرك أن النمو هو الطريق الذى لا غنى عنه لتحقيق الأهداف والطموحات المشروعة فى العيش بحرية وكرامة وعدالة فيما تبرهن الحالة الأوروبية غداة الانتخابات التى شهدتها اكثر من دول فى القارة العجوز على اهمية تحقيق النمو الذى لايمكن ان يتوافق مع اجواء مصطنعة من الفوضى والمزايدات والنيل من المؤسسات العزيزة فى اى وطن. وكما لاحظت صحيفة مثل النيويورك تايمز الأمريكية فإن اوروبا اتجهت بعد الانتخابات الأخيرة فى دول مثل فرنسا واليونان للتركيز فورا على قضية النمو وتجاوز أجواء الأزمة الاقتصادية والركود وهو ما يحدث أيضا بصورة لافتة فى ألمانيا ليكون الشعار العقلانى فى المرحلة الراهنة بأوروبا :"دعم النمو". وفى بلد مثل اسبانيا تجاوزت نسبة البطالة بين الشباب دون سن ال25 عاما ال 50 فى المائة كما تؤكد الاحصاءات المعلنة ان شابا من بين كل ثلاثة شبان فى ايرلندا يعانى من البطالة بينما يخشى الأمريكيون من أن تتجاوز نسبة البطالة بينهم معدلها الحالى الذى يقترب من 17 فى المائة وهى قضية فى صلب سباق الانتخابات الرئاسية التى تتصاعد حملاتها بين الرئيس باراك اوباما ومنافسه الرئيسى عن الحزب الجمهورى ميت رومنى. ويبدو ان هناك حاجة فى خضم الحملات الانتخابية لمرشحى الرئاسة فى مصر لمزيد من الاهتمام بقضية البطالة بين الشباب والبحث عن حلول عملية جادة لها بدلا من الارتكان لشعارات قد لا تصمد أمام الواقع ولا تلبى متطلبات رجل الشارع الذى يتطلع لحياة أفضل. وتقتضى دواعى المصارحة وإعلاء صالح شعب مصر فوق اى اعتبارات اخرى-القول بأن البعض عمد ويعمد فى خضم الحملات الانتخابية الرئاسية للمزايدات وتوتير الأجواء التى لن تؤدى سوى لمزيد من الاحتقانات وخصما من المتطلبات الفعلية والتطلعات المشروعة للمواطن العادى او رجل الشارع المصرى. وكان المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد أكد على أن انتخابات الرئاسة ستجرى فى موعدها هذا الشهر وتمسكه بالجدول الزمنى لتسليم السلطة. في هذا الصدد انتقد الكاتب الصحفى المرموق سلامة احمد سلامة "ظاهرة انعدام الثقة" وقال:"لا يمكن ان يكون انعدام الثقة بين المصريين وبعضهم وانعدام الثقة فى انفسهم وقياداتهم واحزابهم ومثقفيهم قد بلغ هذه الدرجة التى تجعل من الصعب تصديق معظم القرارات وما تحمله وسائل الاعلام التى تختلط فيها الحقائق بالأوهام والوقائع بالمؤامرات والأقوال بالتمنيات والمعاينة بالسماعيات والشائعات". وكان الكاتب والمعلق البارز فهمى هويدى قد استهجن ما وصفه ب "لحالة التشكيك والتهوين" من قرارات اتخذها المجلس الأعلى للقوات المسلحة وتشكل "نقطة مضيئة فى سجل الثورة المصرية والمجلس العسكرى والحكومة" وقال:"تلك شهادة ينبغى ألا نضن بها إذا أردنا أن نكون منصفين". ودعا الفقيه الدستورى المرموق الدكتور أحمد كمال أبو المجد "لإنهاء حالة الاستقطاب ليحل محلها تساند وتفاهم وتعاون" مشيرا إلى خطورة عدم الاهتمام بالأوضاع الاقتصادية فيما انتقد "هؤلاء الذين يرتدون اقنعة ويقولون مالايؤمنون به". ورغم ما قد يبدو على السطح من احتقانات-تبدى الطالبة الجامعية ندى جلال تفاؤلها مؤكدة على وعى الشعب المصرى فيما تدعو لمزيد من الاهتمام بأوضاع المرأة وزيادة نسبة الحضور النسائى والمشاركة فى الشأن العام. وإذا كانت شرائح من النساء قد اعربت عبر وسائل الإعلام عن قلق حيال أوضاعهن الحالية فإن السؤال الذى ربما يثير المزيد من القلق لأنه يتعلق بالمستقبل:هل تؤدى لغة الخطاب السياسى والممارسات الفعلية لبعض اطراف المعترك السياسى وخاصة فى خضم الحملات الانتخابية الرئاسية الى الحاق اضرار فى الواقع بالشباب الذين كانوا للمفارقة فى طليعة ثورة 25 يناير؟. وفى هذه الحالة فإن أولئك الذين تقنعوا بأقنعة الثورة واندفعوا فى حمى المزايدات وسعوا للنيل بالباطل من مؤسسات عزيزة فى هذا الوطن ولها مكانتها الراسخة فى الوجدان المصرى وتسببوا فى اجواء من شأنها عرقلة النمو انما يخوضون حربا ضد الشباب هى فى الواقع حرب ضد مستقبل مصر. وقالت الكاتبة الصحفية وفاء محمود فى جريدة الأهرام:"دماء المصريين لا مصالحهم فقط أمانة فى عنق المؤسسة العسكرية لقواتنا المسلحة وهى النظام الوحيد الذى لم يصبه الخلل..فقد ضج الناس من المتحولين الذين باتوا ثوريين ومن تيارات دموية تستخف بالعقول". كما حذر الدكتور محمد نعمان جلال الخبير السياسى والسفير السابق من "راكبى الموجة الثورية دون ايمان حقيقى بها بل بهدف التخريب وتشويه الصورة الطيبة وفى النهاية فان من يعانى من الفوضى هو شعب مصر" مضيفا :"إن علينا أن نقول كلمة الحق عالية ومدوية لأنه ليس لنا مصلحة شخصية او حزبية". إن الديمقراطية لا تعنى أبدا خلق حالة انقسامية مستديمة فى المجتمع وتحويل مكوناته لفرقاء يتربصون ببعضهم البعض أو التهجم على جند مصر وإنما الديمقراطية كما تتجلى فى الدول التى توصف بالديمقراطيات العريقة فى التنافس للوصول الى السلطة لتنفيذ برامج تسعى لخدمة القاعدة الشعبية العريضة ونالت موافقتها عبر صناديق الانتخابات. وعلى سبيل المثال فإن قضية مثل التعليم ينبغى أن تحظى بمزيد من الأهمية فى المعترك السياسى المصرى الراهن بعيدا عن الشعارات الفضفاضة والمزايدات السهلة التى تعبر عما يوصف بالظاهرة الصوتية أكثر من كونها خطابا له مصداقيته بالقابلية الواضحة لتحويل الكلمات الى افعال تصبو لصالح المواطن ومستقبل الوطن. ولاحظ الكاتب سلامة احمد سلامة أن قضايا المصير وأخطار التهديد الخارجى تكاد لا تحظى من الباحثين عن السلطة أو الساعين للمناصب الرئاسية فى حملاتهم الانتخابية بكلمة أو برؤية مستقبلية باستثناء محدود من بعض المرشحين. أما منير صبرى وهو مهندس مدنى فيحذر من خطورة مشكلة العشوائيات التى استفحلت فى مراحل سابقة بينما يتطلع مصطفى خميس العامل فى قطاع النسيج إلي رئيس يصلح نظام التعليم ليتمتع ابنه بفرصة تحقيق أحلامه - على حد قوله -. ونظرة على المشهد الانتخابى الأمريكى-تكشف فورا عن أن مسألة تمكين الشرائح الفقيرة والمحدودة الدخل من التمتع بأفضل مستويات التعليم هى فى قلب السباق الحالى نحو البيت الأبيض وموضع مراقبة مستمرة من الصحافة ووسائل الإعلام التى تثير التساؤلات وتكشف أوجه الخلل فى الخطاب والأداء معا للمرشحين ليس بقصد التشهير وإنما من أجل التصويب. فقضية تطوير التعليم مرتبطة عضويا بمواجهة حالة البطالة لأن إصلاح التعليم يعنى ضمن أمور متعددة عدم الانفصال عن متطلبات السوق وبحيث يجد الخريج من يطلب مهاراته للعمل ومن ثم اضحى التعليم فى المجتمعات المتقدمة فى حالة حراك وتطور مستمر والمعنى لن يغيب فى هذا السياق عن العلاقة الجوهرية بين التعليم الجيد والاقتصاد القوى. وفى كل ذلك فإن الشباب فى قلب المشهد وموضع اهتمام خاص من أطراف اللعبة الديمقراطية فى الدول المتقدمة حيث لا مجال لشعارات خلابة لكنها لا يمكن أن تترجم لفرص حياة أفضل هى فى الواقع مضمون الحرية والكرامة والعدالة فى سياقات الحداثة واستحقاقات القرن الحادى والعشرين. و قضايا مثل التعليم والضرائب وزيادة فرص العمل والخدمات العامة ومدى تدخل الدولة فى السوق الحرة لصالح أغلبية المجتمع باتت تشكل الفيصل بين ما يعرف بالاقتصاد المتوثب والاقتصاد المحبط بقدر ما تبين الخيط الفاصل بين احترام العقل وإهداره . ومن نافلة القول أن قضايا كهذه كانت حاضرة بقوة فى المشهد الانتخابى الأخير بفرنسا فيما حظى المرشح الاشتراكى الفائز فرانسوا هولاند بتأييد كبير من قطاعات يهمها أن يصل لمنصب الرئاسة من يطالب بتحفيز وزيادة الإنفاق الحكومى وخاصة فى مجال الخدمات الاساسية كالتعليم والصحة. ولا يعنى ذلك أن فرانسوا هولاند أو غيره من المنتصرين فى الانتخابات التى شهدتها أوروبا مؤخرا بمقدوره وحده أن يجترح معجزة فالجماهير هى القادرة على دفع عجلة النمو فى مجتمعاتها فى ظل اجواء مواتية للنمو. ومن الطريف أن البيت الأبيض الذى فقد نيكولا ساركوزى كحليف سياسى فى قصر الاليزيه لم يخف ارتياحه حيال فوزه بحليف اقتصادى هو الرئيس الفرنسى المنتخب فرانسوا هولاند الذى يتبنى رؤى تتوافق مع الرؤى الاقتصادية للرئيس الأمريكى باراك اوباما. إنه الاقتصاد وسياسات النمو التى باتت موضع المفاضلة فى الداخل والخارج وحتى فى بلد كالهندوراس التى كانت توصف بأنها من "جمهوريات الموز" كان أول ما فعله الرئيس المنتخب بوريفيريو لوبو - بعد تحرك ثورى فى عام 2009 أطاح بحكم مانويل زيلايا - أن كلف على الفور حكومته ومساعديه بالبدء فى تحرك ثورى جديد هدفه "اقامة نظام سياسى-اقتصادى ينتشل نحو ثلثى سكان البلاد من هاوية الفقر التى تسبب فيها النظام المخلوع حيث حفنة من العائلات الثرية تهيمن على الاقتصاد". إن الثورة تعنى بالضرورة خلق حالة مواتية للنمو والاقتصاد المتوثب بشعب متفائل أما الفوضى فلا تعنى سوى اقتصاد محبط وزيادة فى معدلات البطالة فيما كان الكاتب والمعلق المرموق سلامة احمد سلامة قد أوضح من قبل :"أن الذين يؤمنون باستمرارية الثورة عليهم أن يوفروا لها الأوضاع المؤسسية الكفيلة بعدم تآكلها أو تآكل التأييد الشعبى لها" ولاحظ أن "إصرار البعض على تنفيذ المطالب بصورة فورية يدل على عبثية ". وتبدى الطالبة الجامعية ميرفت عبد الرحمن دهشتها حيال ما تصفه بتعمد البعض إثارة حالة من الاضطراب فى الشارع كلما تحقق نوع من الإنجاز على طريق تحقيق أهداف ثورة يناير منوهة بأن الانتخابات الرئاسية يقترب موعدها فيما تمنت أن يشهد اقتصاد مصر نموا كبيرا فى المرحلة المقبلة. يدرك المصريون - بسلامة الفطرة فى سوادهم الأعظم - أن التوقف عن النمو يعنى الموت.. ومصر لن تموت ولن تسمح بإهدار العقل لأنها كانت وستبقى منارة للحياة ولنبوغ العقل المبدع..تلك رسالتها ما بقى الزمان وإن كره الكارهون الذين يريدون دفعها دفعا من الثورة النبيلة إلى الفوضى المدمرة بهدف إجهاض أهداف ثورة يناير.. تلك ظنونهم..خابت الظنون وغدا يقول الشعب كلمته فهو القائد وهو المعلم. اقرأ ايضا : تجديد حبس المتهمين باستهداف المجرى الملاحي لقناة السويس 15 يوما