تحليل : أحمد تركي، مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط تشهد العلاقات بين طهرانولندن توترا متصاعدا بعد اقتحام متظاهرين إيرانيين مجمعين للسفارة البريطانية في طهران، حيث أطلقت قنابل حارقة وأحرقت أعلام بريطانية، وهو ما يعيد الأذهان إلى أجواء عملية احتلال إيرانيين للسفارة الأمريكية في طهران، بعد الثورة عام 1979. تأتي هذه التوترات على خلفية قيام بريطانيا بقطع العلاقات المالية مع المصارف الإيرانية الأسبوع الماضي، بعد اتهامها بتسهيل البرنامج النووي الإيراني، ومصادقة مجلس صيانة الدستور في إيران على خفض مستوى العلاقات مع بريطانيا، بعد يوم من تمريره في مجلس الشورى، وهو يلزم الحكومة بطرد السفير البريطاني وخفض مستوى العلاقات إلى مستوى قائم بالأعمال. وعكست الموافقة السريعة لمجلس صيانة الدستور، الأهمية التي توليها إيران لإظهار رد فعلها على العقوبات التي فرضتها بريطانيا عليها مؤخرا. ولم يكن القرار الذي اتخذه مجلس الشورى الإيراني وليد اللحظة، بل عكس طبيعة العلاقات المتوترة التي سادت بين البلدين على مدى عقود. وكان المركز الثقافي البريطاني قد ألغى نشاطاته الثقافية في إيران في فبراير 2009 احتجاجا على المضايقات التي تعرض لها موظفو المؤسسة من جانب السلطات التي أرغمت الموظفين الإيرانيين العاملين فيها على الاستقالة تحت الضغط من مناصبهم، فيما رفضت الحكومة الإيرانية منح تأشيرات دخول للموظفين البريطانيين في المؤسسة المتخصصة بتقديم نشاطات ثقافية وتعليمية بالتفاهم مع لندن، باعتبار أن هذه النشاطات جسر لمد أواصر الصداقة والتفاهم بين البلدين. والواقع أن ملف العلاقات الإيرانية البريطانية هو ملف ساخن ومليىء بالتجاذبات السياسية منذ عدة قرون، بسبب الدور الذي لعبته السفارة البريطانية في طهران في تاريخ إيران الحديث، ابتداء من إيوائها زعماء الثورة الدستورية "المشروطة" الذين لجأوا إليها عام 1906، وتدخل هذه السفارة في نصب وعزل القادة العسكريين والحكام، حتى تنصيب رضا شاه بهلوي عام 1925، حاكما أوحد على إيران، قبل أن تقوم الولاياتالمتحدة بإسقاطه لمصلحة نجله محمد رضا بهلوي عام 1941. ويرى مراقبون أن العلاقة بين إيران وبريطانيا لا تحمل ذكريات جميلة في ذهن المواطن الإيراني، حتى أن فئة الشباب الذين ينتقدون سياسات الحكومة الإيرانية، لا يحملون في أذهانهم صورة ناصعة للسياسة البريطانية حيال بلادهم، إذ كان شعارا "الموت لأمريكا" و "الموت لبريطانيا" من أهم الشعارات التي رفعها الإيرانيون بعد سقوط نظام الشاه عام 1979. ولعل قضية تأميم النفط وإزاحة الزعيم الوطني محمد مصدق عام 1953 تظل القضية الأهم العالقة في ذهن عموم الشعب الإيراني الذي يتهم الاستخبارات البريطانية بالضلوع في إسقاط هذا الزعيم الذي لا تزال الذاكرة الإيرانية تنظر إليه بتقدير. ولم تفرق الجماهير الثورية التي أطاحت محمد رضا بهلوي في 11 فبراير 1979، بين بريطانيا والولاياتالمتحدة، وعندما هاجم الطلاب السائرون على نهج الإمام الخوميني السفارة الأمريكية في طهران، اضطرت السفارة البريطانية إلى إغلاق أبوابها، ولجأت الدبلوماسية البريطانية إلى السفارة السويدية لتتخذ منها مقرا لرعاية مصالحها في إيران حتى عام 1988. ويمكن القول أنه منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 وحتى الآن شهدت العلاقات بين لندنوطهران حالات من المد والجذر يمكن إيجازها على النحو التالي:
- في عام 1980 داهم ستة مسلحين مناهضين للإمام الخوميني السفارة الإيرانية في لندن واحتجزوا 26 رهينة وقد لقي خمسة منهم مصرعهم على أيدي القوات الأمنية البريطانية التي تمكنت من إطلاق سراح الرهائن فيما عدا رهينتين تمكن المسلحون من قتلهما. - وفي عام 1989 أصدر الإمام الخوميني، فتوى بإهدار دم الكاتب البريطاني سلمان رشدي ''الهندي الأصل''، في أعقاب كتابه ''آيات شيطانية''، والذي اعتبر إساءة للإسلام والمسلمين واتهام الاستخبارات البريطانية بدعم سلمان رشدي، ما دفع بمجلس الشورى في حينه إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع الحكومة البريطانية لامتناعها عن إدانته. - وشهدت العلاقات بين الجانبين تحسنا ملحوظا عام 1991 في أعقاب مساعدة إيران في إطلاق سراح تيري وايت الإنجليزي الذي احتجز في لبنان قرابة السنوات الخمس. - وعلى رغم تطبيع العلاقة وتحسنها، فإن الأمور لم تكن تسير بشكلها الطبيعي بسبب الاتهامات المتبادلة بين الجانبين والتي شملت قضايا عدة أبرزها اعتقال 23 بحارا بريطانيا عام 2007، اتهمتهم الحكومة الإيرانية بدخول المياه الإقليمية الإيرانية في شط العرب. ولطالما اتهمت الأجهزة الإيرانية نظيرتها البريطانية بالضلوع في التفجيرات في مناطق مختلفة من إيران أبرزها في مدينة الأهواز عامي 2005 و2006. - وعادت العلاقات بين لندنوطهران إلى التحسن عام 1998، عندما رفضت الحكومة الإيرانية للفتوى الصادرة بحق سلمان رشدي وأنها غير ملتزمة بتنفيذها ولن تقوم بتشجيع أي شخص على ذلك، مما أسفر عن تقارب ملحوظ بين الجانبين حيث اجتمع ديريك فاتشيت أحد المسئولين في وزارة الخارجية البريطانية حينذاك مع مسئول إيراني، وقد أعرب فاتشيت خلال هذا الاجتماع عن إدانته لمقتل الدبلوماسيين الإيرانيين في أفغانستان، فضلا عن دعمه لطهران في حربها ضد حركة طالبان آنذاك، وفي عام 2000 قام وزير الخارجية الإيراني آنذاك كمال خرازي بزيارة لبريطانيا. - وتوطدت العلاقات بين البلدين عام 2001 بعد تقديم بريطانيا الدعم لإيران في حملتها ضد تهريب المخدرات عبر الحدود بين أفغانستانوإيران وقد قام وزير الخارجية البريطاني جاك سترو بزيارة إلى إيران في ذلك العام. - إلا أن العلاقات بين طهرانولندن سرعان ما شهدت انتكاسة مطلع عام 2002 عندما رفضت طهران ترشيح ديفيد ردادي سفيرا لبريطانيا لديها، الأمر الذي دفع بريطانيا إلى تخفيض مستوى تمثيلها الدبلوماسي لدى طهران. ومنذ ذلك الوقت والعلاقات بين البلدين لم تسر على وتيرة واحدة، بسبب الاتهامات المتعددة التي وجهها المسؤولون الإيرانيون إلى الحكومات البريطانية المتعاقبة، بالتدخل لتقويض النظام في إيران، ولم تنج العلاقات الثنائية بين البلدين من الاتهام بعد الأحداث التي وقعت عام 2009 إثر ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية التي فاز بها الرئيس محمود احمدي نجاد ، إذ تم اتهام الحكومة البريطانية ومعها سفارتها العاملة في طهران بدعم المحتجين، ما دفع مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي إلى وصف بريطانيا ب "الدولة الخبيثة". وتأسيسا على ما سبق، يمكن القول إن العلاقات البريطانية الإيرانية مرشحة بقوة لمزيد من التوتر خلال المرحلة القادمة وذلك على خلفية التصعيد المتبادل بين الغرب وإيران بشأن ملفها النووي، وكذلك بسبب الأوضاع الاقتصادية الغربية المتأزمة بصفة عامة، ولعل بوادر التصعيد تجسدت في مشروع البيان البريطاني والذي تبناه مجلس الأمن بإدانة إيران لعدم حمايتها مقر البعثة الدبلوماسية البريطانية في طهران. ويدعو مجلس الأمن السلطات الإيرانية الى حماية الممتلكات الدبلوماسية والقنصلية واحترام التزاماتها الدولية بشكل كامل في هذا الشأن وهو ما انتقده علي لاريجاني رئيس البرلمان الايراني. أقرأ ايضا: اسرائيل تفرج عن اموال السلطة الفلسطينية