من البني إلى الأزرق فالشفاف والأخضر والأحمر والأسود. من أطباق القيشاني إلى المزهريات الشفافة إلى التحف الزرقاء والكؤوس بالأحجام المختلفة. منها الرقيق ومنها المخيل. وتفاجأ بان هذه الدقة في الأحجام والمقاييس، ليست إلا صناعة يدوية دون استخدام الآلات الحديثة. فهي مهنة متوارثة من آلاف السنين تميزت بها مدينة الخليل في الضفة الغربية، فاشتهرت بها. وان كان في المدينة ثمانية مصانع قبل عشرة أعوام فلم يتبق اليوم إلا مصنعين، حيث واجهت المهنة عدة تحديات، منها هجر العاملين فيها لهذا الشغل الشاق إلى حرف أخرى، ومنها انفتاح السوق أمام منتجات عالمية منافسة وبتكلفة اقل ما قلل من القدرات التسويقية. لكن من بقي في المهنة، مصمم على الاستمرار. حرفة على لهب من نار يشعل يعقوب النتشة، صاحب مصنع السلام في الخليل، النار في فرن لتصل درجة حرارته إلى أكثر من ألف وأربعمائة درجة مئوية، ويمسك بعصا طويلة في نهايتها قطعة زجاج خام ، يدخلها الى الفرن ثم يسحبها وينفخ في العصا المجوفة، ليتشكل الزجاج كما يريد، مزهرية أو زجاجة صغيرة أو كبيرة، بعنق طويل أو بدون عنق. فالنتشة الذي يعمل مع والده منذ كان طفلا قبل أربعين سنة، تعلم كيف يحول بقايا الزجاج إلى تحفة فنية جذابة "نجمع الزجاجات الفارغة، ونغسلها ونصهرها على حرارة أكثر من ألف مئوية، ثم نقتطع كمية منها حسب المنتج المرغوب الذي أشكله في مخيلتي وأنفذه بالنفخ والملقط، فانا اعشق هذه المهنة، وخلال الليل، أفكر دائما في متوجات جديدة، لأنفذها في الأيام التالية". النتشة، يعمل أكثر من عشرة ساعات يوميا، وأحيانا خمس عشرة ساعة، في صناعة تقليدية قال إنها عرفت منذ القدم، وتطورت مع العصور واحتياجات المجتمع المتغيرة والمتطورة، "يهتم المستهلك الحديث بالأشكال الجميلة على حساب الأطباق والكؤوس والأدوات المستخدمة في المطبخ، وهو أصبح يطلب منتجات للزينة، وبصورة اقل منتجات للاستخدام". عندما تتجول في معارض بيع الزجاج، وتدقق في الرفوف والمعروضات، تطالعك أطباق زجاجية نقش عليها صور لمدينة الخليل، ومنتجاتها وخاصة العنب الذي تشتهر به، وصور للحرم الإبراهيمي، وأخرى للأسواق، إلى جانب مدن اخرى كالقدس ومقدساتها. وتظهر على المزهريات والتحف مزخرفات ومنمنمات زجاجية تحمل ملامح المواقع التاريخية في البلاد، وتعكس التراث الشعبي. وقد حرص المنتجون على توفير سلع بأسعار متدرجة، يمكن لأي متسوق اقتناءها. تسويق محلي ودولي رغم تناقص العاملين خلال سنوات الانتفاضة، تراجعت المهنة، فالخليل كانت تحت الحصار لسنوات، وشهدت أحداثا شلت الحياة فيها، فأغلقت العديد من المصانع، لا الزجاج فحسب، لكن صناعة الزجاج كانت الأكثر تأثرا، وبعد عودة الهدوء النسبي، عاد مصنعان فقط للعمل، وتدريجيا استعادت المهنة بعضا من مكانتها، وعاد التسويق داخل الضفة الغربية والأردن، وبعض دول الخليج، ثم فتح السوق الأووروبية عبر مصدرين محليين، ولكن ليس بالصورة المطلوبة، إلا أنها مبشرة، حيث الذوق مختلف عن المحلي، والاهتمام بالمنتوج كتحف صغيرة ملونة وجميلة كما يشير يعقوب النتشة، الذي يرى أن التسويق هو أهم عنصر في استمرار المهنة، لكنه يتطلب تطويرا دائما. بقيت صناعة الزجاج تراثا عائليا، يتوارثها الأبناء عن الأجداد، أو بالأصح يتوارثها الأبناء المهتمون بها، فسامر االسلايمة، ورث العمل عن أبيه منذ سبعة عشر عاما، ويشاركه أربعة عمال آخرين في إنتاج الأصناف المطلوبة أو تصنيع أنماط جديدة لتنافس المستورد في ظل تراجع إعداد المهتمين، كما يقول سامر النتشة "نلاحظ عدم اهتمام الجيل الجديد بهذه المهنة، حتى أن بعض أهالي الخليل لا يعرفون شيئا عن هذه الصناعة، في حين يحرص السياح الأجانب القادمون إلى الخليل على زيارة المصنع والاطلاع على هذه المهنة وأسرارها وجمالها". ويضيف السلايمة أن بعض العمال الذين يقبلون العمل في المصنع، يمكثون أسابيع أو أشهر ثم ينتقلون إلى صناعات أخرى، فهذه المهنة كما يبدو تحتاج لمن يحبها أكثر ممن يمارسها كعمل مأجور. ولا شك أن المكوث أمام فرن بحرارة عالية تحتاج إلى قدرة تحمل وما يوفرها هو الإيمان بالمهنة". إلا أن تحديا آخر، يواجه صناع الزجاج، الذين تتدفق على أسواقهم نفسها، منتوجات منافسة، وخاصة من الصين، وبأسعار اقل من الصناعة المحلية التقليدية. فالسوق المحلي مفتوح أمام السلع الأجنبية، وان كانت اقل جودة، فإنها أكثر تنوعا. مع ذلك يؤكد علي صالح، تاجر الأدوات المنزلية حيث تعرض المنتوجات الزجاجية، ان "منتجات المصانع المحلية يفضلها ويحرص على اقتنائها، خاصة أولئك الذين تجولوا في المصانع واطلعوا على سير العمل اليدوي فيها، فأحبوها، كما أن السلع بدت أكثر تنوعا في الآونة الأخيرة لترضي الأذواق والأهواء المختلفة". عبد الكريم سمارة / الخليل