تحلَّت مصر على مدار 9 سنوات من التفاوض مع الجانب الإثيوبي حول سد النهضة بالصبر وضبط النفس، إزاء ما أبدته إثيوبيا من تعنت واضح ومماطلة متعمدة، خلال جولات المفاوضات التي أثبت خلالها الجانب المصري حرصه على الوصول لحل توافقي يمكِّن إثيوبيا من التنمية التي تنشدها من وراء إنشاء السد، ويحفظ لمصر حقوقها التاريخية في مياه النيل، والتي لا تقبل المساس بقطرة منها. وإزاء هذا التعنت الإثيوبي المتواصل والمستمر منذ بدء المفاوضات، لم يعد أمام مصر سوى أن تخرج ما بجعبتها من أوراق للضغط على الجانب الإثيوبي، وأن تفتح الباب أمام كل الخيارات التي تحفظ بها حقوق المصريين في مياه النيل، والتي باتت تهددها تلك الآلية التي يصر الجانب الإثيوبي على اتباعها لملء وتشغيل سد النهضة، حتى وإن وصل الأمر حد التلويح بالحرب التي لا ترغب مصر نفسها أن تكون الأداة اللازمة لحسم هذا الملف الشائك؛ لأنها لم تكن أبدًا من دعاة الحرب واللجوء للقوة، ودائمًا ما ترى في الخيار التفاوضي سبيلا يلزم عليها أن تسلكه، شريطة أن يقود في نهاية المطاف إلى حفظ حقوقها وعدم التفريط فيها؛ لأن خيار الحرب لن ينهي الأزمة، وسيكون الجلوس إلى طاولة المفاوضات هو المشهد الأخير قبل التسوية العادلة للأزمة. وفي تحول لافت في إدارة مصر لهذا الملف، أكد وزير الخارجية المصري، سامح شكري، الاثنين الماضي، لجوء مصر إلى خيارات أخرى، حال استمرار التعنت الإثيوبي خلال مفاوضات الجانبين بشأن سد النهضة، وذلك خلال مشاركته في ندوة عقدها مجلس الأعمال المصري للتعاون الدولي، بعنوان "الدبلوماسية المصرية: التعامل مع التحديات الراهنة". وأكد شكري التزام مصر بنهج التفاوض على مدار السنوات الماضية فيما يخص سد النهضة، وتحليها بنوايا صادقة للتوصل إلى اتفاق منصف وعادل لهذه الأزمة، على نحو يحقق مصالح مصر والسودان وإثيوبيا، مضيفا أن موقف إثيوبيا التفاوضي الأخير لا يبشر بحدوث نتائج إيجابية مع استمرارية نهج التعنت الإثيوبي. وأوضح شكري أنه "إزاء هذا التعنت الإثيوبي، ستضطر مصر لبحث خيارات أخرى، كاللجوء إلى مجلس الأمن الدولي؛ لكي يضطلع بمسؤولياته في تدارك تأثير هذا الملف على السلم والأمن الدوليين، عبر الحيلولة دون اتخاذ إثيوبيا لأي إجراء أحادي يؤثر سلبًا على حقوق مصر المائية". تصريحات وزير الخارجية المصري جاءت أثناء استئناف المحادثات بين الدول الثلاث في أجواء مشحونة، حيث تتهم مصر إثيوبيا بالسعي لإلغاء كل الاتفاقات التي تم التوصل إليها من قبل، وهو ما ظهر جليًّا خلال محادثات الأسبوع الماضي، والتي حضرها مراقبون من الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي وجنوب إفريقيا، وركزت على المسائل الفنية لتشغيل السد وملء خزانه خلال مواسم الأمطار والجفاف، وتقدمت خلالها إثيوبيا بمقترح اعتبره الجانب المصري مقلقًا للغاية، ومجحفًا بحق دولتي المصب في مياه النيل الأزرق. وما إن انتهى اجتماع وزراء مياه الدول الثلاث، حتى خرج علينا الدكتور محمد عبد العاطي، وزير الموارد المائية والري، أمس الأربعاء، ببيان يؤكد أن المفاوضات التي أجريت على مدار الفترة الماضية لم تحقق تقدمًا يذكر، مرجعا ذلك إلى المواقف الأثيوبية المتعنتة على الجانبين الفني والقانوني، حيث رفضت أثيوبيا خلال مناقشة الجوانب القانونية، أن تقوم الدول الثلاث بإبرام إتفاقية ملزمة وفق القانون الدولي، وتمسكت بالتوصل إلى مجرد قواعد إرشادية يمكن لإثيوبيا تعديلها بشكل منفرد. وأوضح عبد العاطي أن إثيوبيا "سعت إلى الحصول على حق مطلق في إقامة مشروعات في أعالي النيل الأزرق، فضلًا عن رفضها الموافقة على أن يتضمن اتفاق سد النهضة آلية قانونية ملزمة لفض النزاعات، إضافة إلى اعتراضها على تضمين الاتفاق إجراءات ذات فعالية لمجابهة الجفاف". وكشف وزير الري المصري أن إثيوبيا اعترضت على اقتراح بأن تتم إحالة الأمر إلى رؤساء وزراء الدول الثلاث، كفرصة أخيرة للنظر في أسباب تعثر المفاوضات، والبحث عن حلول للقضايا محل الخلاف؛ مما أدى إلى إنهاء المفاوضات. والآن، أصبح لجوء مصر إلى مجلس الأمن الدولي أقرب الخيارات المنتظر أن تسلكها مصر لحفظ حقوقها المائية، ووضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته بالضغط على إثيوبيا وإعادتها إلى رشدها، قبل أن يفوت الأوان، وتصبح مصر مضطرة إلى خيارات أخرى، لا يُستبعد منها خيار استخدام القوة والتلويح بالحرب؛ لأن حقوق المصريين في مياه النيل هي في حقيقة الأمر قضية حياة أو موت.