لم تعرف مصر الطائفية طوال تاريخها حيث سجلت لنا نقوش المعابد والبرديات انها كانت باستمرار منبتا للتعددية الدينية والفكرية. منذ فجر التاريخ عرفت مصر عبادة الالهة ولم توجه الناس في معتقداتهم حتي انها تركت كل منهم يختار الهه الذي يعبده دون انتقاص من قدر من آمن بهذا الاله او غيره وحتي حينما استأثر كهنة امون بالهيمنة الدينية ظهرت علي الارض حركة مناوئة قادها الفرعون اخناتون بنفسه والذي ادخل التوحيد الي مصر مثمثلا في الاله الخالق اتون . صحيح ان الذاكرة المصرية تحدثنا بنشوب حروب كان الدين محورها مثلما حدث في انتقام كهنة امون من الديانة الجديدة والتي انتهت بمقتل الفرعون الشاب توت عنخ امون ..او كما حدث في حرب الفرعون رمسيس الثالث علي النبي موسي الذي ادخل اليهودية الي مصر ومنها انتشرت الي جميع بقاع العالم ..الا ان كل ذلك بقي في نطاق الحوادث الفردية التي تمث طائفة او جماعة بعينها بحيث لانري تأثيرا كبيرا علي عوام الناس او مسلكهم تجاه احتواء الآخر ايا ماكان معتقده. مصر استقبلت يوسف النبي ورفعته الي مكانة العزيز الذي يساوي منصب رئيس الوزراء رغم انه كان غريبا عنها الا ان انتمائه الواقعي لها وسعيه لانقاذها في محنة السنين السبع اذابت الحدود بينه وبين الشعب فلم ينظر الي اختلافه في العقيدة معه بل ان الكثيرين قد دخلوا في عبادة التوحيد علي يديه . المسيح عيسي وصل رضيعا تحمله امه العذراء مريم فكان ذلك مبشرا بدخول المسيحية الي مصر ومع ذلك لم يكن دخول الالاف من المصريين في الدين الجديد عيبا بل اننا نلحظ في العمارة والنقوش المتأخرة ان الديانات مجتمعة كانت تحت سقف واحد في دوائر الحكم فكان هناك في عصر الدولة البيزنطية من يتمسك بعبادة امون ومنهم من يدين باليهودية او نراه قد اعتنق المسيحية . عمرو بن العاص نفسه حينما فتح مصر لم يطالب المصريين بأن يخرجوا من عقائدهم الي الاسلام بل ترك لهم كامل الحرية في اعتناق ما يريدوه فكان هذا سر انتشار الاسلام ونجاحه في مصر . المصريون اذاً لايعرفون الغلو في العقيدة ولهذا لم يكن غريبا ان تسقط كل دعوات التشدد الديني علي ارض مصر منذ ان قامت ملامح اول دولة عرفها العالم . لم يألف ابناء هذا الوطن التكفير او اللجوء الي العنف باسم الدين بل ان الذي يذاكر جيدا نفسية هذا الشعب سيتأكد انه ينفر باستمرار من كل مدعي بانه يملك مفاتيح الجنة والنار. ولهذا فان المتاجرين باسم الدين لن تقوم لهم قائمة في مصر مرة اخري حتي وان حاولوا بالمظاهرات المسلحة والتفجير والقتل والدم الحرام اثبات انهم موجودون علي الارض لانهم في الحقيقة خرجوا ولن يعودوا ابداً من دائرة الوطن.