مرت ثلاث سنوات دون أن يتقدم لها عريس واحد فتحت ذلك الظَرف الصغير، وأخذت تفحص ما بداخله، وهى في كل مرة تفتحه تشعر كأنها تراه للمرة الأولى، تبدو كما لو كانت تجهل محتواه، على الرغم من أنها لم تنسه قط، بل والناس من حولها لم يجهلوا كذلك ما يحتوى عليه من ذكريات. لم يكن الظَرف الصغير يحوى أول رسالة غرامية، أو خطابا هاما، أو بيان توظيف يسرّ القلب والجيب، أو وصية هامة، أو ميراثا، بل يحوى ثلاث صور لا أكثر، فاق عمر أولاها اثني عشر عاما، وأخراها الثلاثة أعوام، ثلاث لقطات يحملن في طياتهن، حكاية حياتها، بكل ما حملته تلك الأعوام من طرافة وغرابة. نظرت للصورة الأولى، فقفزت إلى ذهنها ما تحمله من ذكريات، تلك الزغاريد التي تدب في أرجاء البيت، الحركة التي لا تكاد تسكن إلا لتبدأ أشد مما كانت عليه، مع اقتراب موعد العُرس المنتظر، التهاني والقبلات التي تطبع على خديها وجبينها قبل أن يطبعها المحبوب على شفتيها، الابتسامات والضحكات التي لا تنضب، ثم الليلة الكبيرة التي تتوج فيها ملكة على بيتها. الكل يرقص في سعادة، والموسيقى والأغاني المبهجة تتمايل بأجساد الحضور، تمر ساعة تلو الأخرى، ثم تستحيل السعادة قلقا، فشكا، فخوفا شديدا، وتستحيل التهاني همسا، فحديثا، فسخرية، فاعتذارات، انتصف الليل ولم يحضر العريس أو المأذون، وانفض الفرح، وسكتت الأغاني والموسيقى، وتلاشت البسمات، واختلط الماكياج بالعرق بالقلق والدموع، غادر الحضور، والتقطت الصورة، عروس تجلس وحيدة، اكتملت زينتها وغاب من تزيّنت لأجله، لا تعرف من التقط الصورة، إلا أنها تذكر أنها عندما رأتها، لم تشأ إلا أن تحتفظ بها. أمسكت الصورة الثانية، وأغمضت عينيها لتعيش في ذلك الجو البعيد، مرت ثلاث سنوات دون أن يتقدم لها عريس واحد، وقد كان الخاطبون يتهافتون عليها من قبل، وسرت أقاويل أن الفتاة أصابها مسٌّ شيطاني، أو عمل سفلى يُنفّر الرجال منها، ولم تكد الأم تسمع تلك الأقوال، حتى نهضت مع ابنتها للشيوخ والعرّافين والسحرة، فكما كانت الأم تقول "الغرقان يتعلّق بقشة"، ولم يمر أسبوع دون زيارة ولي صالح لالتماس الوساطة والرحمة وكشف الغم، وحدث ما أرادتاه، فاستجاب الله لدعاء الأم وأمل البنت. حضر العريس، وتكرر المشهد من جديد، نفس الزغاريد والأغاني والتهاني، العُرس والحضور والابتسامات، ثم الهمس والغمز واللمز، ثم الصمت، ثم الصورة التي لم تختلف عن سابقتها. وضعت الصورتين جانبا، وأمسكت بالثالثة، نظرت إليها وابتسمت، اغرورقت عيناها بالدموع، التقطت الصورة بعد ثلاث سنوات من سابقتها، ولم يحدث في خلال السنوات الثلاث ما يستحق الذكر، فقد سارت الحياة كما هي، عملت معلمة بإحدى المدارس الخاصة، وعاشت الأم حياتها دون أن تحاول تكرار ما فعلته مع ابنتها في المرة الفائتة، والأب أحيل للمعاش، وعاد ليمكث مع أسرته، ثم تقدم العريس الثالث للزواج منها. عادت الكرَّة من جديد، كل شيء يحدث مثلما حدث في الماضي، كما لو كانت في حلقة مغلقة، لا تلبث أن تنتهي حتى تبدأ من جديد، ولكن عند موعد التقاط الصورة، دعت الفتاة الأم والأب، وضعت الأم يدها على كتف ابنتها، ودنا الأب من ابنته في كرسيها الأحمر، ثم مد إبهامه ليمسح دمعتها الوليدة، جلس على الكرسي الآخر بجانبها، أمسكت الأم بيد الأب، وبيدها الأخرى يد ابنتها، ثم كانت الصورة. مسحت دمعتها ثم نهضت، فتحت أحد أدراج خزانتها، وأخرجت صورة رابعة، فارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة، وضعت الصورة الرابعة في الظرف، أغلقته، نهضت لتعيش الصورة القادمة. كلمتنا -مايو-2010