تحول سجال الدستور إلى معركة خطيرة بين التيارات الإسلامية والقوى المدنية حتى باتت تمثل تهديدا للتجربة الديمقراطية الوليدة، واستند الإسلاميون فى موقفهم إلى أن هناك استفتاء شعبياً حدث وبمقتضى نتائجه تحدد المسار الذى ستسير فيه البلاد، ويبدأ بانتخابات تشريعية تختار برلماناً ينتخب بدوره اللجنة التى ستكتب الدستور، وبالتالى لا توجد حاجة لإعلان دستورى جديد يتضمن مواد حاكمة للدستور أو مواد أساسية على اعتبار أن ذلك يمثل قيدا على إرادة الجماهير واختياراتها لمواد هذا الدستور. فى حين رأت القوى المدنية أن صدور إعلان دستورى يتضمن المبادئ الأساسية للدستور بعد توافق القوى السياسية عليها لا يتعارض مع المسار الذى استفتى عليه الشعب، لأن المجلس العسكرى سبق أن أصدر إعلاناً دستورياً رحب به الإسلاميون دون سند شعبى، وأن صدور إعلان دستورى ثان يتضمن ما تتوافق عليه القوى السياسية لا يخل بموضوع الإرادة الشعبية، لأن الدستور الذى ستكتبه اللجنة سيعرض فى كل الأحوال على الاستفتاء الشعبى. والحقيقة أن الصراع حول الدستور يعكس صراعا أعمق حول ثقة قطاعات كبيرة من التيارات المدنية فى مدى إيمان التيار الإسلامى بالديمقراطية وأن معركة الدستور شكلا هى معركة حول الديمقراطية مضمونا. وإذا كان من المؤكد أن خطاب بعض التيارات الإسلامية يمثل خطرا حقيقيا على الدولة المدنية والديمقراطية، إلا أن هذا لا يعنى أن كثيراً من التجارب الاستبدادية جاءت من نظم حكم ادعت المدنية والقومية كنظام البعث فى العراق وسوريا أو نظام القذافى المخرب بجانب نظم الفشل الدينية فى السودان وأفغانستان. والحقيقة أن الوضع فى مصر يمثل فرصة تاريخية لإحداث «دمج آمن» للجسم الرئيسى من التيار الإسلامى فى العملية الديمقراطية، وتحويل أيديولوجية كلية وشاملة تمثلها تيارات الإسلام السياسى إلى ممارسة سياسية فى التفاصيل (مناقشة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية: تعليم، صحة، مواصلات) عبر أطر ومؤسسات ديمقراطية، وهى فرصة لم تتح لتجارب أخرى عرفها العالم العربى حين كانت الوسيلة الانقلابية هى طريق التغيير، فكانت كلها تجارب غير ديمقراطية، سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية. ومع ذلك ظل هناك تيار واسع من القوى العلمانية داخل مصر وخارجها يرى أن معضلة التيار الإسلامى فى بنيته الفكرية التى هى بحكم التعريف والطبيعة تمتلك عيوبا هيكلية تحول دون انفتاحها الديمقراطى، وتتجاهل السياق السياسى والاجتماعى المحيط بها، والقادر، فى حال إذا كان سياقا ديمقراطيا على أن يعيد تشكيل الخطاب الإسلامى وفق قواعد جديدة توائم بين مرجعيته الإسلامية وقواعد الديمقراطية. والحقيقة أن تاريخ كل الأفكار والحركات السياسية لم يكن مجرد نص فكرى منفصل عن سياقه السياسى، بل كان نصا مندمجا فى هذا السياق، فمن الصعب أن نفصل الشيوعية الأوروبية التى راجت فى الستينيات والسبعينيات عن السياق الليبرالى الذى عاشته أوروبا الغربية، وأدى إلى تحول أغلبها من أحزاب ثورية تهدف إلى قلب الأسس، التى يقوم عليها النظام الرأسمالى القائم إلى تجارب اشتراكية ديمقراطية أصبحت جزءاً من المنظومة الرأسمالية والديمقراطية القائمة. والمؤكد أنه حين جاءت قوى سياسية من خارج المنظومة السائدة أو الحاكمة، فإنها التزمت بالقواعد القانونية القائمة حتى لو كانت خطأ أو لا ترضى عنها كليا، ثم عبر الممارسة الديمقراطية استطاعت أن تعدلها. وأصبح وجود قاعدة قانونية ودستورية تحكم الخلاف والمنافسة السياسية بمثابة عنصر ضامن لإدماج الإسلاميين أو غيرهم فى العملية الديمقراطية وليس العكس كما يتصور البعض. إن الرسالة التى قدمتها الخبرة التركية تدور حول هذه المسألة، فقد نجحت فى أن تفرض على كل أطراف الساحة السياسية، بما فيها الجيش، احترام قوانين الدولة ودستورها العلمانى على تطرفه، وهذا ما جعل التيارات السياسية المختلفة، خاصة الإسلامية، تعرف قواعد اللعبة وسقفها، فإذا احترمتها (حتى لو اختلفت مع بعض جوانبها) كما فعل حزب العدالة والتنمية الحاكم، فإنها يمكن أن تغيرها كما فعل مؤخرا مع أهم ركن من «ثوابت» النظام التركى وهو الدور السياسى للجيش. أما المشهد المصرى فإن أخطر ما فيه أن الإسلاميين الذين ناضل كثير منهم من أجل الحرية واضطهدوا لسنوات طويلة سعداء بأنهم هم الذين ستكون لهم اليد العليا فى وضع الدستور الجديد، ويهددون المجلس العسكرى والقوى الأخرى بمليونيات تحريضية تدمر فرصة تاريخية لدخولهم لأول مرة إلى الحياة السياسية عبر أحزاب قانونية وليس جماعات دعوية اضطهدت أغلب الوقت. فحين يشعر فريق بأن الإخوان وحلفاءهم السلفيين سيحصلون على نصف مقاعد البرلمان فهذا فى حال حدوثه سيعنى إمكانية أن يقودوا حكومة، بما يعنى أننا أمام تحول تاريخى فى مصر ستكون له تبعات كثيرة محليا وإقليميا ودوليا، وهو الأمر الذى يستلزم كسر حالة الاستقطاب السائدة فى المجتمع، ونسج مجموعة من التوافقات مع قوى مدنية حقيقية وشبابية جديدة، كما فعل حزب العدالة والتنمية، الذى كان سبب نجاحه واستمراره فى الحكم أنه لم يكن حزبا أحاديا فى إدارة علاقاته بخصومه من المدنيين والعسكريين. وإذا كان من غير المطلوب أن تنقل التجربة التركية بحذافيرها فى مصر، لأن الواقع الثقافى والقانونى والدستورى فى أرض الكنانة يسمح بوجود أحزاب إسلامية، فإن هذه الأحزاب مطالبة حين تقرر تأسيس حزب سياسى بأن تؤمن بالديمقراطية ومدنية الدولة وهو ما لايزال يصرح بعكسه قادة أحزاب شرعية إسلامية بصورة تعكس عدم اتساق كامل مع النفس، بتأسيس حزب سياسى فى نظام ديمقراطى، وفى نفس الوقت ترفض قواعد هذا النظام الذى ارتضت على أساسها أن تؤسس حزبها. إن تمسك التيارات الإسلامية برفض التوقيع على وثيقة المواد الأساسية أو الحاكمة للدستور، رغم اتفاق كثير منهم على مضمونها، ورفضهم أن تخرج فى إعلان دستورى آخر، رغم أنهم رحبوا بالإعلان الأول، وسبق أيضا أن صوتوا بنعم على التعديلات التى جرت على دستور 71 يعنى قبولهم بإمكانية العمل بالدستور القديم «محَسّن»، وعادوا الآن ورفضوا بضع مواد أساسية تحكم كتابة الدستور الجديد. أفهم مبررات الإسلاميين فى التحفظ على هذا المسار نتيجة لوجود استفتاء حسم الأمر لصالح مسار آخر، ولكن الموضوع أكبر بكثير من مسألة الإعلان الأول (الذى لم يستفت عليه الشعب) والإعلان المحتمل (الذى لن يستفتى عليه الشعب أيضا)، إنما فى الوعى بتلك اللحظات التاريخية حين تلوح فى الأفق فرصة حقيقية لدخول الإسلاميين بعد طول استبعاد إلى الساحة القانونية، بل أيضا يرشحهم الكثيرون لكى يصبحوا أكبر كتلة فى البرلمان، فإن هذا القادم السياسى الجديد (رغم قدمه الثقافى والتاريخى) يثير تلقائيا شعوراً بالرفض والريبة والخوف وهى كلها أمور كانت تحلها القوى الجديدة فى كل المجتمعات، التى عرفت تجارب مشابهة بتقديم تنازلات ورسائل تطمينية حتى تستطيع أن تنال ثقة من فى الحكم ومن فى الشارع معا. علينا ألا ننسى التحديات والمشكلات التى عرفتها أوروبا الليبرالية، حين كان يطرق أبوابها أحزاب اشتراكية وشيوعية فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى (قبل دمج الجميع مع بداية الثمانينيات، واختفاء البعض مع بداية التسعينيات)، وكيف أن هذه البلاد ذات المؤسسات الديمقراطية الراسخة كانت تحشد كل الإمكانات من أجل منع هذه الأحزاب من الوصول للسلطة (أقامت الولاياتالمتحدة فى منتصف السبعينيات جسراً جوياً لنقل عشرات الآلاف من الإيطاليين إلى بلادهم للتصويت ضد وصول الحزب الشيوعى للحكم)، كما يمكن أيضا أن نسترجع الانقلابات التركية، حين كان شبح الإسلاميين يقترب من السلطة وما جرى فى تشيلى من انقلاب ضد الحزب الاشتراكى الحاكم والمنتخب ديمقراطيا وغيرها. صحيح أن الوضع فى مصر مختلف وأن العالم أيضا قد تغير ولكن «فزاعة الإسلاميين» فى داخل مصر وخارجها أكبر ربما مما يتصوره الإسلاميون، وأن الطريقة التى يطرقون بها أبواب المشهد السياسى الحالى تجهض فرصتهم فى تحقيق إنجاز تاريخى وهى أن يشارك الإسلاميون فى نهضة هذا الوطن عبر قواعد ديمقراطية ودستور مدنى لجمهورية حديثة.