أكتب لكم من فراش المرض.. تهشمت عظامى فى حادث يعكس حال مصر قبل الثورة وبعدها.. عجزت «دولة مبارك» عن منع المقطورات لأن مافيا النقل الثقيل عرفت كيف تضغط وتدفع، وفشلت «دولة اللادولة» الحالية فى ضبط الطرق، فأصبح الطريق مغامرة بلا قانون.. وليس فى ذلك استثناء، فمصر كلها تحولت إلى «مغامرة»، أو هى مقامرة، ولكل طرف الحق فى استخدام أى «كارت» يكسب به..! كان الله لطيفاً بى.. فدفعت ثمن الفوضى شروخاً وجروحاً وكدمات وسيارة باتت من «الفلول».. غير أن عظامى وسيارتى و«خضتى» تبدو شديدة التفاهة قياساً لما يحدث لمصر الآن.. بلدك وبلدى تحول إلى رهينة فى أيد عابثة.. فلا أحد ممن يحلفون بعمر مصر فى الفضائيات والمنابر يحبها أكثر مما يحب نفسه.. أزاحت ثورة الشباب البريئة جبل الاستبداد الجاثم على صدر الوطن، واستل كل طامع سكيناً ليأخذ نصيبه، وكأن «أم الدنيا» تحتضر وليتقاتل الأبناء على الميراث.. أى عقوق هذا.. وأى جريمة تلك؟! أشعر بالخزى مثلك تماماً.. فنحن شعب فشل فى إكمال أى شىء.. حتى الثورة الحقيقية الوحيدة فى تاريخنا الحديث تتحول تدريجياً بفعل أطماعنا الشخصية إلى «نكسة جديدة».. إرادة «يناير» الصلبة تتمزق بين فصائل سياسية تتنازع الأدوار والمكاسب.. وميدان التحرير الذى ارتوى بدماء الشهداء قد يتحول يوم الجمعة المقبل إلى ميدان معركة، شىء مما حدث فى «موقعة العباسية» أو أكثر دموية.. فكل فريق قرر أن يذهب للتحرير رافعاً شعاراته وفارضاً إرادته، وكأن الشعب المصرى قطيع يساق إلى حيث يريد هذا أو ذاك.. ونسى الفرقاء أن الدولة التى يمزقونها قد تسقط، فلا هى ستكون مدنية ولا إسلامية ولا عسكرية.. والطريق الذى نحن فيه الآن سيجعلنا نبحث أعواماً طويلة عن مصر التى أضعناها..! تسألنى: كيف ستضيع مصر؟!.. ستضيع لأنها خرجت من ثورة عظيمة دون خارطة طريق.. ستضيع لأن من يحكمون ويديرون الأمور الآن لا يدركون أن ثمة فارق سرعة كبيراً بينهم وبين الأجيال التى أسقطت نظام مبارك.. وإذا كان المجلس العسكرى جزءاً من هذا النظام، ولو نظرياً، فإن ما قدمه فى بداية الثورة أثبت أنه ليس كذلك، وعليه الآن ولاحقاً أن يثبت بالإجراءات والخطوات الفعلية أنه جزء من هذه الثورة، وأن مهمته التاريخية تتركز فى قيادة البلد مع القوى السياسية نحو الديمقراطية والدولة الحديثة..! ولكن.. أين هى القوى السياسية؟!.. هذا هو السؤال الأصعب.. فمصر قد تضيع لأنها بلا ساسة حقيقيين.. الثورة ذاتها أثبتت ذلك حين تفجرت ونضجت وأثمرت دون قيادة واضحة.. توارى الساسة لأنهم كانوا جزءاً من فساد النظام السابق، أو كانوا صامتين بفعل العجز أو المصالح.. وتلك هى معضلتهم اليوم، فالمعارضة التى حققت مصالحها بالانتهازية السياسية فى عهد مبارك هى ذاتها التى تسعى الآن للانقضاض على مكاسب الثورة بنفس الانتهازية..! الأحزاب القديمة تبحث عن ورقة «التحرير» لتستر عوراتها التى ظلت مكشوفة 30 عاماً أو يزيد.. الأحزاب الجديدة تولد بنظرية الخلايا.. تنشأ ثم تنقسم ثم تتفرق مثل الجزر الصغيرة.. الإخوان يرونها فرصة العمر، وعلى الشعب المصرى كله أن يدفع لهم ثمن القمع فى زمن «العادلى».. السلفيون يريدونها إسلامية، ومن يعارضهم «كافر» أو مسلم لا يهم لأنه فى الحالتين عليه أن يخرج من البلد.. وثوار التحرير يرفعون مطالبهم دون نقاش.. ومن ليس فى اعتصامنا ليس منا.. والمرشحون المحتملون للرئاسة يوزعون القبلات على الجميع لعلهم يفوزون بالمقعد الوثير..! لا شىء تغير.. لا العقلية التى تدير البلد، ولا العقلية التى تقدم نفسها بديلاً..! أى وطن بمقدوره تحمل كل هذه الحماقات.. وأى مستقبل سيولد من رحم هذا القبح؟! أليس فى مصر رجل رشيد يقول لكل المقامرين: أنتم تذبحون أعظم أمة كل صباح..! [email protected]