فما نراه الآن من روائع المؤلفات اليونانية القديمة، وما نسَج علي منواله الكتاب الأوروبيون قديمًا وحديثاً، يرجع في عنصره إلي أصل مصري قديم »نحن نظن أن شمس حضارتنا قد قاربت أن تبلغ غاية ارتفاعها، والحقيقة أننا مازلنا منها إلي الآن في أوان آذان الديك ووقت مطلع نجم الصباح، ففي مجتمعنا الهمجي مايزال نفوذ الأخلاق في طفولته»، هكذا تحدث الأديب الشاعر الفيلسوف الأمريكي »رالف إمرسون» منذ أكثر من مائة عام. وما إن استوت الطائرة غاية ارتفاعها في طريقي من روما إلي باريس حتي تذكرت كلماته، ويالها من كلمات أصابت عين الحقيقة، فمازال عالمنا رغم كل ما حققه من تقدم علمي وما أصابه من ذري تكنولوجياته العبقرية يحبو صغيراً في عالم المثل والأخلاق، تتناوشه موروثات النشأة البدائية الأولي لإنسان الغاب، فيبدو كما إنسان ما قبل التاريخ يحارب من أجل كل شيء ولا شيء إلا بسط النفوذ والسطوة والهيمنة، يخاتل وينافق ويكذب ويتآمر ويغش ويدلس ويظلم، لكأنه لم يحظ من قيم العدالة والاستقامة والضمير والحق والخير والجمال إلا قبض الريح، فصار عالمنا مجتمعاً همجياً تضربه الفوضي إلا من رحم ربي. نعم صدق رالف إمرسون في مقولته وصدقت حتي اليوم رؤيته، فمازال الغرب يباهينا في معظم أدبياته بأنه قدم للعالم أهم إنجازاته: إعادة اكتشاف الإنسان وكتابة التاريخ، ونسي أننا أول من عرف التوحيد وأن للعالم خالقا عظيما وأن هناك بعثا وسؤالا وحسابا وفي بلادنا كان فجر الضمير وضحي الإنسانية، نسي ذلك بينما راح يستنزف خراج الطبيعة ويلوث البيئة وينشر قيم الظلم والاستبداد والحروب والإرهاب، ويصم آذانه عن نداء الحق والضمير والقانون والأخلاق. نعم كتب التاريخ وأعاد للإنسان، ربما الغربي وحده، اعتباره بأنه مركز الكون والغاية منه، بينما فرض علي عالمنا الثالث المنكوب بظواهره ونخبه وآفاته أن يكون سوقاً لمنتجاته ومورداً لاستنزاف خيراته وطاقاته ومسرحاً لعولمة ظالمة نحت لتشيئ الإنسان وابتلاع مصائره وتقيؤه سلعاً ومنتجات في سوق ظالمة كتب عليه أن يسرق فيها، وحالوا دون تحوله منتجاً ومشاركاً في خراج العالم وعطاياه. إنه عالم ظالم بلا ضمير بل ربما لم يطلع عليه بعد »فجر الضمير». عدت بمقعدي للخلف ورحت أطالع ربما للمرة الثالثة كتاب »فجر الضمير» لمؤلفه جيمس هنري برستد الأثري والمؤرخ وعالم المصريات الأمريكي، في ترجمة النابغة المصري سليم حسن. من مصر القديمة أشرق علي العالم يقول سليم حسن في المقدمة: ولست مبالغًا إذا قررت هنا أن خير كتاب أخُرج للناس في هذا العصر هو كتاب »فجر الضمير» الذي وضعه الأستاذ »برستد» في عام 1934، وهو في الواقع مؤلف يدلل علي أن مصر أصل حضارة العالم ومهدها الأول؛ حيث في مصر شعر الإنسان لأول مرة بنداء الضمير، فنشأ الضمير الإنساني، وبها تكونت الأخلاق الإنسانية. وقد أخذ الأستاذ »برستد» يعالج تطور هذا الموضوع منذ أقدم العهود الإنسانية إلي أن انطفأ قبس الحضارة في مصر حوالي عام 525 قبل الميلاد. فمصر في نظره حسب الوثائق التاريخية هي مهد حضارة العالم؛ وعن هذه الحضارة أخذ العبرانيون، ونقل الأوروبيون عن العبرانيين حضارتهم، وبذلك يكون الأستاذ »برستد» قد هدم بكتابه الخالد هذا، النظريات الراسخة في أذهان الكثيرين القائلة بأن الحضارة الأوروبية أخذت عن العبرانيين. وكأن هذا الأثري العظيم بكتابه هذا قد أظهر للعالم أجمع بأن المصدر الأصلي لكل حضارات الإنسانية، هي مصرنا العزيزة، وما كان لها من سيادة مطلقة في تكوين ثقافة العالم، وفي وضع أسس الأخلاق وانبثاق فجر الضمير الذي شع علي العالم أجمع. والعظيم يقدر العظيم؛ فالأستاذ »برستد» قد شغف في بادئ حياته بدرس تاريخ الشرق القديم عامة، ولكن لما اشتد ساعده مال بكل نفسه وروحه لدرس تاريخ مصر وحضارتها، وأنفق في سبيل الوصول إلي معرفة مكانة مصر بين دول العالم القديم ما يربو علي ألف ألف جنيه، جمعها من رجالات أمريكا الذين يشجعون العلم والبحوث القديمة. وقد انتهي به البحث بعد درس حضارات الأممالشرقية القديمة كلها؛ إلي أن مصر أصل مدنيات العالم، ومنبت نشوء الضمير، والبيئة الأولي التي نمت فيها الأخلاق فهو إذن رجل عظيم كشف عن ماضي أمة عظيمة. ولعمري لقد قضي الأستاذ »برستد» بكتابه »فجر الضمير» علي الخرافات والترهات التي كانت شائعة بين السواد الأعظم من علماء التاريخ القديم والحديث قضاء مبرما، ففريق منهم ظن أن الصين والهند ثم بلاد اليونان كانت مهد الحضارة العالمية وعنها أخذ العالم الحديث، والواقع أن مصر، كما ذكرنا آنفًا، هي التي أخذ عنها العالم حضارته عن طريق فلسطين التي ليس لها فضل في ذلك سوي أنها كانت نقطة الاتصال بين الحضارة الأوروبية والحضارة المصرية. علي أن العبرانيين قد نقلوا الحضارة المصرية إلي أوروبا مشوهة بعض الشيء، ثم صقلها الأوروبيون بطورهم حسب أمزجتهم وألبسوها ثوباً جديدًا كل نسجه من خيوط المدنية المصرية، فما نراه الآن من روائع المؤلفات اليونانية القديمة، وما نسَج علي منواله الكتاب الأوروبيون قديمًا وحديثاً، يرجع في عنصره إلي أصل مصري قديم. كل ذلك قد شرحه الأستاذ »برستد» شرحًا فياضًا مستفيضًا تدعمه الوثائق الأصلية القديمة مما لا يترك مجالاً لأي ناقد يفهم الحقائق علي وجهها الصحيح ولا يتعصب إلي فريق دون فريق. إن الذي يتصفح كتاب الأستاذ »برستد» وبخاصة الفصل الأول منه، يلحظ لأول وهلة أنه يريد أن يلفت نظر العالم إلي أهمية ضرورة البحث والتنقيب عن تاريخ الشرق القديم ووضعه أمام أعين العالم وتدوينه بصورة واضحة، حتي يكون وسيلة لمعرفة أصل الحضارة الحديثة. وفي الحق قد أفلح الأستاذ »برستد» فلاحًا منقطع النظير بقدر ما وصلت إليه معلوماته في تجديد الماضي القديم وجعله حياً أمامنا يتكلم ويناقش، وسيجد القارئ أن الأستاذ هو أول من قسم تاريخ الإنسانية عصرين بارزين؛ الأول عصر كفاح الإنسان مع المادة والقوي الطبيعية والتغلب عليها نهائيّا، والعصر الثاني هو عصر الكفاح بينه وبين نفسه الباطنة، وذلك حينما أخذ ضميره يبزغ وأخلاقه تتكون، ويقدر »برستد» زمن كفاحه المادي بنحو مليون سنة، أما عصر بزوغ ضميره فقد بدأ يحس به منذ أن عرف كيف يدون أفكاره بالكتابة، ويقدر عمره بنحو خمسة آلاف سنة تقريباً. ويعتقد الأستاذ »برستد» أننا لانزال في مستهل عصر تكوين أخلاقنا، وأننا مازلنا علي أبواب مملكتها الشاسعة المترامية الأطراف، التي لم نرد مجالها بعدُ، وأنه بيننا وبين الوصول إلي نهاية حدود تلك المملكة أهوال ومصاعب شاقة ربما استغرق التغلب عليها مئات الآلاف من السنين، انتهي الاقتباس بتصرف، وهنا نعود من حيث بدأنا إلي رالف إمرسون، ولعله محق فيما قال. .. والتقيت طه حسين والبيروني »إن فضيلة الرجل هي أثره، فالرجل سييء الذكر منسي لا أثر له» كلمات حفرت علي شاهد قبر مصري من القرن الثاني والعشرين ق.م.» أما » الرجل العظيم هو من يترك الآخرين في حيرة بعد وفاته» كما قال بول فاليري، شاعر وكاتب وفيلسوف فرنسي، تحمل جامعة مونبلييه 3 الفرنسية اسمه. وهو الذي التقيت عميد الأدب العربي د. طه حسين في رحابه، حيث قضي سنته الأولي للبعثة 1914 في دراسة اللغة الفرنسية وعلم النفس والأدب والتاريخ في مونبلييه 3 »بول فاليري». د. طه حسين كانت أهم فضائله في آثاره من أفكار وكتب ورؤي ومواقف وتاريخ عريق لرجل عظيم تركنا في حيرة بعد وفاته، فلم نزل حتي اليوم أطفالاً يعبثون بآثاره، ولم نقدر لعطاياه حق قدرها، ولم نصغ سمعاً لما أوصانا به في »مستقبل الثقافة في مصر» فتعثر نظامنا التعليمي حتي صار علامة علي السخرية والتخلف، ولا تعلمنا من »قادة الفكر» فرحنا ننظر للغرب بتوجس وخيفة، ولا »في الشعر الجاهلي»، ولا »أيام العمر» في حواراته مع توفيق الحكيم، ولا »الفتنة الكبري» وغيرها مما لم نفد منه حتي يومنا هذا. ناهيك عن مواقفه السياسية. لم أمكث في باريس إلا سويعات قليلة توجهت منها مباشرة إلي مدينة مونبلييه العريقة في جنوبفرنسا، مدينة الشمس والثقافة، حيث مطارها الأنيق جزيرة علي شاطئ المتوسط تطل غرباً علي إسبانيا وشرقاً علي إيطاليا، وهي عاصمة محافظة هيرولت، تتوسط مدينتي نيم وبيزيه التاريخيتين، سكنها القديس يعقوب، حيث اكتسبت شهرتها الدينية، وفي القرن السادس عشر أشرقت في سماء فرنسا مركزا تجارياً وثقافياً له معالمه التاريخية، مدينة تتميز بدفء شوارعها ودقة بناء معالمها وقصورها التاريخية خاصة بعدما أقيمت بها جامعة كبيرة تهتم بشئون العلوم الطبيعية هي جامعة مونبلييه التي يرجع تاريخ إنشائها إلي 1289 بموجب مرسوم بابوي صدر عن البابا نيكولا الرابع. نشأت الجامعة عن اندماج عدد من المدارس التي كانت قائمة بالفعل من قبل. تتألق الموضة والاستايل شوارع المدينة بفضل مبدعي المعمار والفن أمثال كريستيان لاكروا، وجان نويل، جان بول غوتييه الذي طور دار الأوبرا »عرس فيجارو» فيها لتصبح معلماً ثقافياً شهيراً، إضافة إلي عشرات المتاحف والمسارح ودور العرض الفنية والكاتدرائيات والكنائس التاريخية، يتوسطها بلاس دولا كوميدي بحديقته العامة يتوسطها مركز مؤتمرات لوكوروم، وحولها مطاعم وكافتيريات وأوتيلات تاريخية علي الطراز القديم، وتطل علي كاتدرائية مونبلييه التاريخية العتيقة التي تستضيف في باحتها أقدم كلية طب في أوروبا في مدخلها تمثال لفرانسوا بيروني وفي متحفها ثمثال آخر لابن سينا. ويقال إن فرانسوا بيروني ينتسب إلي جذور عربية ربما لأبو الريحان البيروني الذي عرف بكثرة وتنوع أسفاره، من الطرائف أن مستشفي جامعة مونبلييه تسمي مستشفي البيروني. نور وبيجاد وسهرة في »دولاكوميدي» هبطت الطائرة مطار مونبلييه قادمة من باريس، كنت علي متنها، تأخرت بالمطار حيث مقالب شركة الطيران وسوء خدماتها فقد تمزقت حقيبة ملابسي التي رحنا نجمعها من علي السير ونقدم شكوي بسوء الخدمة، استفسر ابني معز عني فأدخلوه إلي صالة الوصول لممنا أغراضنا، أوصلني البيت تركني لزوجته نور وحفيدي ذي العامين ونصف بيجاد وذهب إلي أقرانه زملاء البعثة يعدون تقاريرهم التي سوف يقدمونها إليّ، دعتني نور علي الغداء في أحد مطاعم ميدان الكوميدي الشهير، احتسينا الاسبرسو الشهيرة، ثم ذهبنا معاً لقاعة مجاورة لحضور افتتاح عرض فنون التصوير »أناقة الفن تدوم» للفنان الفرنسي الشهير لويس داهل - ولف الذي توفي 1989 ولاتزال أعماله تجذب الجمهور الفرنسي العاشق للفن. تخوفت أن يمنعوا بيجاد من الدخول للقاعة، إلا أنه بادر السيدة الأنيقة الشابة قوميسير القاعة قائلاً »بون سوار» رحبت به وسألت نور هل هو هادئ أم يمكن أن يسبب إزعاجا لأحد؟ أخبرتها بأنه معتاد علي حضور حفلات الكونسرفاتوار وارتياد المتاحف. دخلنا تجولنا واستمتعنا وطفرت من عيني دمعة إذ تذكرت والدي عبد المعز السعدني رحمه الله وهو يصحب أبنائي نضال وإسلام ومعز وجهاد وفادي إلي معارض سان مارك في الإسكندرية. يقول علماء الاجتماع أن السلوك لا يورث، وأشك كثيراً. الحياة ليست أكواباً ملونة في صباح اليوم التالي، كان عليّ أن ألتقي المبعوثين من جامعتي، جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا من دارسي الماجستير والدكتوراة، أطلع علي تقاريرهم قبل أن ألتقي أساتذتهم الأجانب ومسئولي الجامعة لمناقشة اتفاقياتنا للتبادل العلمي، إذ لدينا برنامج ابتعاث أكثر من نشط، فلنا 81 مبعوثاً من جامعة مصر في كبريات الجامعات الأمريكية والأوروبية والروسية والصينية واليابانية. جلسنا وتناقشنا وأسعدني تفوقهم وكيف أنهم يشعرون بأنهم يؤدون رسالة مهمة لوطن عزيز وأنهم يعتبرون أنفسهم سفراء فوق العادة لدولة عريقة. دعوتهم علي فنجان قهوة فاختاروا مكاناً جميلاً بجوار الجامعة، به مكان مفتوح للتدخين فقد دام اجتماعنا طويلاً و»البايب» بين أصابعي يتشوق لإشعاله. ذهبنا في سيارة د. محمد عبد المرضي، توقفنا في المكان المخصص تعامداً علي الرصيف، كان أمام عمود ماكينة تحصيل كارت الوقوف أحد الفرنسيين يحاول ختم بطاقته، انتظرناه حيث ذهب غاضباً »الماكينة دي باين عطلانه» انتهزها عبد المرضي فرصة وركن مكانه، قبل أن نطلب من النادل الأنيق طلباتنا، ذكره الباقون، علي فاروق، عمر شعبان، حسام فرحات، معز السعدني، بأنه قد يدفع بدلاً من اثنين يورو رسم الوقوف غرامة مائة يورو إذا ثبت أن الماكينة تعمل، هرول عبد المرضي وعاد مبتسماً فقد أنقذ بالفعل المائة يورو، قائلاً »أنقذت سيادتك يافندم من دفع الغرامة» ولما سألته وهل هو خطأي، رد الجميع مداعبين، هو سيادتك ما تعرفش مرضي كريم قد إيه». ضحكنا وسألتهم ماذا يطلبون؟، قالوا جميعا الاسبرسو اللي بتحبه سيادتك، فقلت ولماذا لا تطلبون مشروبات أخري ربما حرمتكم منها قلة ذات اليد؟ ردوا ضاحكين: الحياة ليست أكواباً ملونة، إشارة إلي يومياتي الماضية حيث كتبت عن الخريجين الذين التقوا أستاذهم وقدم لهم القهوة فتخير كل منهم أفضل وأجمل الأكواب الملونة ثم راحوا يشكون الحياة، فاجأهم الأستاذ بأن كلا منهم تخير كوباً فخماً ملوناً هو مجرد وعاء بينما القهوة واحدة، وأخبرهم أننا نحتاج القهوة أكثر من حاجتنا للأكواب، هكذا خياراتنا في الحياة، بينما الحياة نفسها ليست أكواباً ملونة.