يتسم النتاج الروائي للأديب السوداني المبدع أمير تاج السر بوفرة الشخصيات ذات الحضور التأويلي المتنوع، وإعادة اكتشاف الهامشي انطلاقا من الأصالة الإبداعية المحتملة في تكوينه، وتفكيك معرفة السارد بالعالم، ومزج الواقعي بمعمار علاماتي من الافتراضي، والحلمي، والسحري، وتجاوز مركزية العلامات التي تتصل بالشخصية الفنية، أو بالواقع في القصة؛ فالسارد يمارس نوعا من السخرية إزاء وعيه الذاتي، وشخصياته، وعوالمه المدركة معا؛ وتبدو مثل هذه التقنيات، والتيمات، وغيرها واضحة في روايته "منتجع الساحرات"، وقد صدرت عن دار الساقي ببيروت، ط1، 2015، ويجمع السارد فيها بين الإشارات الثقافية والأدبية للمكان، وتحولاته المتناقضة، وأطيافه التي تجددت؛ لأن لاجئة أريترية جميلة أتت مع مجموعة من الفارين من الحرب في موطنها؛ وكأنها اتصلت بمنتجع الساحرات في مستوي الدلالة الجمالية، وصيرورة المكان الكونية التي حولت آثار الموت، والحرب إلي تكوينات فنية وواقعية فريدة من الأسطوري، والحلمي، والافتراضي في وعي، ولاوعي الشخصيات الهامشية التي يفكك حضورها بنية الهامشي انطلاقا من اختلاط الموت بالحياة في ذاكرة المكان، وأخيلته. وتوحي عتبة العنوان بالارتكاز علي المكان البديل الذي يجمع بين الأدبي، والواقعي؛ فحالة "منتجع الساحرات" هي التي تمنح الشخوص الحلم، والذاكرة، والتأويل النسبي للذات، وتوحي تناقضات المكان بين الموت، والحياة، والحداثة، والأسطورة، والهامشي، والملكي بالتعزيز من موقف الشخصيات الإنساني، والإبداعي الملتبس؛ فالبطل / عبد القيوم دليل يبحث عن محبوبته أببا الأريترية عقب خروجه من السجن فلا يجد سوي الكشك / الأثر الذي كانت تبيع فيه الشاي، وكذلك لا يستطيع قتل نفسه بالخنجر في النهاية؛ فحياته نفسها احتمالية مثل الشخصيات الأخري في النص. ويثير التناقض الداخلي في شخصية البطلة / أببا تسفاي بين وضعها الهامشي كلاجئة، وحضورها الجمالي في وعي الشخصيات الأخري - تحولا في المكان، وفي كينونة الآخرين حولها، كما يثير نزوعا نحو الاختفاء الملتبس بالوجود التشبيهي؛ فعبد الباسط شجر الموظف الكبير يستبدلها بالدمي، وألوان الفستان، والصور، والرسوم، وأطياف الذاكرة، وقمزحاي تيرسو يتراوح بين الغياب، والحضور الفني المضاعف في حي اللاجئين / المرابيع، وفي وعي البطل / عبد القيوم، وفي خطاب السارد، ومنظوره أيضا. هل مارس المكان إغواء ولادة الشخصيات الفنية؟ هل منح أببا حضورها الجمالي الاستثنائي؟ أم أنها حفزت نزوع المكان نحو التجدد الكوني، والأسطوري، والجمالي بعيدا عن مركزيات التحديث، والتهميش؟ إن ذاكرة المكان تفكك واقعيته الجديدة، مثلما يفكك حي المرابيع الحرب، وبني المنتصر، والمهزوم، وكذلك بني الموت، والحياة؛ فمعمارالأغاني، والصور، والأحلام يستبدل معمار الواقع، وحدوده؛ وهو ما يذكرنا بتوجه ديوجين في الثقافة الإغريقية؛ فعبد القيوم، وقمزحاي يستوطنان الشوارع، وتتسع دوائر الأخيلة في إدراكهما بأشكال نسبية فنية متباينة، توحي ببلاغة الأثر المتجاوز للغياب، أو الحضور الواقعي معا. ويمكننا ملاحظة أربع تيمات فنية في الرواية؛ هي المحاكاة الساخرة، واحتمالية السرد، وأطياف المكان، وتحولاته، وتفكيك الشخصية الفنية، وتعددية العوالم الافتراضية. أولا: المحاكاة الساخرة، واحتمالية السرد: تؤكد كتابة الروائي المبدع أمير تاج السر النزوع ما بعد الحداثي باتجاه المحاكاة الساخرة في فعل الحكي، وعلاقة السارد بشخصياته؛ فهو يستعيد نموذج البطل الإشكالي القديم، أو العاشق في سياق مضاد، ومتناقض. ويسخر السارد من بنية التشرد في شخصية عبد القيوم دليل، ويؤكدها في آن؛ فهو يلقب ب "هايلا الإمبراطور"، وكذلك لقبته امرأة ب "حلة الطبخ"، وهو يؤكد الإشارات إلي أنه لص، وسكير، ثم نجده يفكك السرقة، ويسخر منها انطلاقا من فكرة الاستعارة؛ فقد استعار / سرق أسورة منحها لمحبوبته أببا تسفاي، ثم أعادها للبائع في وجود البوليس، ويقول أنا فقط أستعير؛ فالاستعارة تسخر من بنية السرقة الأولي، مثلما تدل نقاط تحول دليل باتجاه الخصوصية الوجودية كبديل عن مركزية المستوي الوظيفي الأدني من الحياة - حين أدرك جمال أببا، وتفردها في وعيه، ولاوعيه، وكذلك تأثره بعالم اللاجئين وأغانيهم، وأدبياتهم علي بدايات تشكل الأصالة التي تؤسس للسخرية من مركزية حياته المجردة من ذاتية تأويلات الكينونة المحتملة في سياق عوالم السجن، والشارع، وصراعاته مع شخصيات مثل شجر، وعرجا، وغيرهما. ويمثل دليل هنا البطل النسبي الحداثي بينما لا تتغير أوضاعه الهامشية، وعوامل الغياب في عالمه الداخلي، ويظل في حالة من الانقطاع عن الآخر / أببا، وعن مقومات كينونته الذاتية بشكل زمني دائري. وترصد المفكرة، والناقدة ليندا هاتشون في كتابها "نظرية في المحاكاة الساخرة" تطور تقنية المحاكاة الساخرة في الفن، والأدب، وتري أنها صارت أسلوبا رئيسيا في القرن العشرين وترتبط بإنشاء شكلي موضوعاتي تعددي من النصوص المختلفة، وهي تملك نوعا من الوظيفة التأويلية بين كل من التضمينات الثقافية، والأيديولوجية أحيانا. وتومئ هاتشون إلي عمل ماجريت "هذا ليس ببايب"، ثم إلي استعادة إليوت للتراث الأدبي الغربي، وبعض الشرقي في "الأرض الخراب"، وإلي أعمال جويس، وكالفينو، وجون فولز، وموسيقي ستوكهاوزن. (کead, Linda Hutcheon, A Theory of Parody, University of Illinois Press, 2000. P.2, 3, 7). تؤكد هاتشون إذا ما توحي به المحاكاة الساخرة من إعادة إنتاج للأثر في سياق تأويلي تعددي، كما تلفت النظر إلي اتساع مجالها، وتطورها في النصوص المعاصرة، وفي الفنون المختلفة. إن علاقة البطل / عبد القيوم ب أببا تستعيد أطيافا من التراث الثقافي تتعلق بتحول أنكيدو مثلا في "ملحمة جلجامش"، وتحوله إلي التحضر بفعل شامات خادمة جلجامش، وإن كان ظهور أببا فقط في منتجع الساحرات هو نقطة التحول باتجاه الجمال لدي دليل؛ فهو يسخر من النموذج الوحشي القديم، ويستعيد صورة العاشق من التراث، دون أن يملك التعالي الشعري السابق، أو أن يبعث، ويتجدد، وإن كان الموت أو الانتحار الاحتمالي بمثابة محاكاة لتجدد النماذج في سياق انعكاسي ساخر. أما قمزحاي تيرسو فهو الشخصية الفنية التي تحاكي البطل الواقعي، وتنفي حضوره أيضا فهو يملك حضورا اجتماعيا في حي المرابيع لكنه يمارس الاختفاء، وتبدل الهوية حتي يصل إلي الغياب، أو الاختفاء الكامل، كما يمارس فعل الأكل في تتبع الشاورما منذ حياة الدجاجة حتي تقطيع اللحم، ثم تناول الكوكاكولا في حالة انفصال عن الحقيقي، وكأن وعيه يسخر من واقعيته نفسها، ويشكك في وجوده حتي في خطاب السارد نفسه. وترتبط المحاكاة الساخرة بمراجعة السارد لوظائفه القديمة، ومعرفته؛ إذ يؤكد وجود قمزحاي، وموقعه، ثم يراوح بين هوياته، وأسمائه؛ ليشكك في حضوره، وينقل البنية الإخبارية للسرد إلي المستوي الاحتمالي. ثانيا: أطياف المكان، وتحولاته: يشير السارد إلي التحول الثقافي للمكان/ منتجع الساحرات باتجاه مظاهر التمدن الحداثية، بينما يحتفظ المكان بذاكرته، وأطيافه الأسطورية؛ فيصير فضاء جماليا تتحقق فيه ملامح ما بعد الحداثة؛ وهو ما يذكرنا بتصور تشارلز جينكس عن تنوع الأزمنة في العمل ما بعد الحداثي، وكذلك النزوع إلي التناقض التفكيكي؛ وهو يولد شخصيات أدبية طيفية متناقضة مثل الحاوي محبوب الذي يرتدي ملابس نسائية مزركشة، ويقيم في خيمة عليها صورة للشيطان، ويقسم مرافقته نصفين في ألعاب السيرك؛ وكأنه مهرج تتداخل فيه إيماءات البهجة، والغياب، والتمزق الديونيسي طبقا لرؤي نيتشه، ويشير السارد إلي وفرة الاحتمالات في المكان؛ إذ خرج شبح الطفل سنكاري الذي توفي في حادث سير منذ سبع سنوات، وشوهد يتمشي، ويسأل عن مطربة اسمها خديجة. هكذا تستنبت الأطياف من الوعي، واللاوعي، ومن ذاكرة المكان، ونزوعه السحري المتجدد في السياق الواقعي المدني نفسه، وفي خطاب السارد التوثيقي الخيالي معا. وأري أن أحلام اليقظة التي يؤكدها النص تتعلق ببعث رؤي المكان، وتجسداته التصويرية، وآثاره التي تتجاوز مركزية الموت، والحياة، والتي تشبه عودة تموز؛ وهي هنا تقاوم آثار بني الموت، والتهميش، وبقايا الحروب. ثالثا: تفكيك الشخصية الفنية: الذات في رواية "منتجع الساحرات" لأمير تاج السر موقع يقبل الاستبدال الجمالي الذي يذكرنا باستراتيجيات التفكيك لدي دريدا؛ فشخصية أببا تتشكل في عوالم الوعي لدي الآخر / الآخرين، بينما تتخذ موقع منسقة الحدائق في حلم اليقظة، وتعيد إنتاج بهجة العودة إلي موطنها حين تشاهد إخوتها يبعثون من الغياب، ويمارسون اللعب في سياق الحلم، ويرصد السارد صورتها بين الحضور، والاختفاء، والتجلي المجازي في الآخر؛ أما قمزحاي فيتمثل في صور المتسول، والمنتج السينمائي، والمتسكع، والغائب، والمؤجل في خطاب السارد، ويبدو دليل في تداعيات النص متعاليا من داخل تشرده، ويقع في مسافة بين الموت، والحياة، وقد يعيد قراءة ذاته من خلال آثار الحائط في السجن، والتي تتجلي فيها المحبوبة في حالة من الانقطاع؛ وكأن الهوية التاريخية تستبدل بالأثر، أو التأويل المتجدد في السياق الافتراضي المضاد للبني المركزية المهيمنة علي الوعي القائم طبقا لتعبير جولدمان؛ فثراء الشخصية الجمالي يقاوم حالة الغياب الأولي، ويستمد قوته من بهجة المكان القديمة، وإغواء الحياة الافتراضية، ونشوة الاستبدال في مستوي الوعي الممكن للشخصية. رابعا: تعددية العوالم الافتراضية: تتضاعف العوالم الافتراضية في منتجع الساحرات، وتبدأ من أخيلة المكان الأدبية، والأسطورية، ثم ظاهرية جمال أببا اللاجئة، وتجلياتها في وعي الشخوص الأخري، ورسوم الحيوانات التي توشك علي الموت في عالم شجر الإبداعي، والمناهض لمكائده، وكذلك تأثير الأصفر المطعم بالذهبي الذي ارتدته أببا علي حضوره، وهويته الجمالية المتجددة، وحتي اتجاه الذات إلي ولوج العالم الافتراضي نفسه، والتوحد به في شخصية قمزحاي التي تراوحت بين الواقع، والتجلي النصي وحده.