مازالت الأخيلة الأدبية المرتبطة بصور المرض، وشكوله، وحالاته، وتجلياته الجمالية في الوعي، واللاوعي، تتجلي كموضوع فني مؤثر في صيرورة الكتابة، وفي إنتاجية النص، وعلاماته، واستعاراته، وتداخلاته مع التراث الثقافي، وبعض الأنساق المعرفية، والثقافية، والاجتماعية، والجمالية في آن. وتعد رواية (إيبولا 76) للروائي السوداني المبدع (أمير تاج السر) الصادرة عن دار الساقي ببيروت سنة 2012 - علامة في هذا الاتجاه الذي يقوم علي تخييل مجموعة من الآثار، والعلامات، والأحداث، والتأويلات الثقافية، والعلمية المتباينة للمرض؛ إذ يتجلي في النص كموت معلق، أو كسيمفونية تمتزج فيها شكول الموت، بشكول الحياة، والحياة الطيفية الاستعارية الساخرة من أي مركز معرفي مسبق يفرض بنيته علي الحدث الذي يجمع في نسيجه بين أصالة الاستعارة، وبهجة الأطياف المتجاوزة للعدم، والنزوع الحتمي نحو الرعب، والموت. وأري أن الحياة الاستعارية الصاخبة، والساخرة هي التيمة الفنية المؤثرة في بنية النص، ومجال علاقاته المتشابكة باتجاه التخييل الجمالي للمرض في الأدب، والفن، وتتجلي هذه الحياة الخفية في التناقض بين أصالة الشخصية الروحية، وآلية الموت، أو التهميش الاجتماعي من جهة، والحياة الطيفية للفيروس التي تنطوي علي كل من بهجة القوة، والسخرية من هيمنتها المركزية في آن من جهة أخري. وبصدد العلاقة بين المرض، واستعاراته الأدبية، تري (سوزان سونتاج) في كتابها (المرض كاستعارة)، أن الاستعارات التي ارتبطت بمرض مثل (السل) كانت ثرية بدرجة كافية؛ لكي تستعمل في اتجاهين متناقضين؛ إذ قد يصور المرض موت شخص ما كطفل، أو ملاك، وقد يمزج ذ في تمثيلات فنية أخري - بين آثار المعاناة، والتسامي، والجمال الحسي؛ وتمثل لذلك بنموذج الفتاة التي كانت مصابة بالسل في لوحة ل (إدوارد مونش). إن تحليل سونتاج لتمثيلات المرض الاستعارية بين الطهارة، والموت، والجمال الحسي، والموت، يعكس فكرة الوهج الخفي للحياة، أو فكرة وجود طاقة إبداعية تتجاوز الموت من خلال الأثر وأطيافه المضادة للمركز، وكذلك التعددية الجمالية الأصيلة في المشهد؛ فنلمح امتزاج الإثارة، والخوف، والطهارة، وبهجة الأطياف في نسيج تأويلي متشابك. أما (ألبير كامي) فقد ارتكز علي وصف الموت في اتجاهي الصخب، وميكانيكية الرعب في رواية (الطاعون)؛ إذ يصف احتضار البواب المصاب، وهلوساته الصاخبة؛ فقد رأي خنزيرا يحرقه، وكرر الشكوي من الفئران قبل أن يموت؛ أما الدكتور (ريو) فتوزعت مشاعره بين القلق، واليقين؛ فالوباء ذ في وعيه ذ يشبه الحرب التي التي يعتقد الناس أنها لن تطول، ولكنها قد تطول مثل الأحلام المزعجة المتكررة. لقد ارتكز تأويل (كامي) الإبداعي علي عبثية استنزاف المرض للزمن، وعلي صخب الأخيلة التي تبدو كصرخة تمرد غير عقلانية تقاوم ميكانيكية الرعب، والموت. وقد أضاف (أمير تاج السر) في (إيبولا 76) تأويلات ثقافية، واجتماعية أخري، وتعددية في الأنساق المعرفية المحيطة بالمرض، واستشرافا لنشوء آخر، أو استمرار آخر للحياة من داخل السياق الذي جمع بين حتمية الموت، والسخرية منه في تداعيات الكتابة في آن. ويمكننا ملاحظة ثلاث تيمات فنية في العمل؛ هي الحياة الاستعارية بين الصخب، والسخرية، وتخييل المرض في السياق الاجتماعي، وانتشار الشخصيات كمقاومة للموت. أولا: الحياة الاستعارية بين الصخب، والسخرية: يمنح الراوي فيروس (إيبولا) حضورا شخصيا طيفيا صاخبا، يتجاوز صمت الموت، وميكانيكيته؛ فهو يخترق الشخصيات، ويسخر من هوياتها، وتجسداتها، ويفككها، أو يقوم بتحليلها فيما يشبه التحول؛ إذ يرتكز الراوي ذ حين يصف مشاعر النهايات ذ علي الهذيانات، والهلوسات الصاخبة البذيئة المباشرة؛ وكأننا أمام طاقة لاواعية واسعة تتهيأ لتجاوز محدودية الحضور الشخصي، وحتمياته باتجاه حياة استعارية جديدة تبدو كصرخة مضادة للصمت، وللمرض؛ ومن ثم ترتد سخرية متواليات السرد نحو (إيبولا) نفسه الذي لا يبدو حضوره مركزيا؛ فهو تمثيل جزئي للحياة الاستعارية الطيفية، وليس معادلا لها. لقد بكي (لويس نوا) عامل النسيج علي جسد امرأة كانت خادمة في فندق، وكان يأتيها مرة كل شهر؛ وكأن الموت، ومشهد المقبرة يمتزج ذ بصورة رئيسية ذ بحب صاخب، وذكريات متوهجة، وسخرية ضمنية من التجسد، يمثلها طيف الفيروس. وقد تعلو نغمات الحياة الطيفية الشخصية الصاخبة، والساخرة للفيروس حين يلتقي (نوا) ببائعة هوي تدعي (كانيني)؛ فيبتسم في سخرية من اقتراب وجهيهما، ثم يقهقه بصوت عال حين يرافق (نوا) الفتاة التي سكنها المرض في اليوم السابق لهذا اللقاء؛ ومن ثم تتصاعد بهجة المرض الشخصية في عملية نسخ الموت الصاخب، أو نسخ النهايات الصاخبة في الشخصيات التي تواجه بدورها حياة طيفية من نوع آخر، يسخر من نغمة الصمت المطلق. لقد تهيأ المرض لاحتلال (نوا) في سياق تكريمه البسيط من رئيس محلي للعمال، وتفكيره في العودة إلي المنزل، ولقائه المتكرر بالعازف (روادي مونتي)، وعلاقته بالعمال، وبالفتاة المتوهجة (كانيني)؛ وهو ما يؤكد أصالة التنوع، وتقاطع المسارات التي يبدو الفيروس جزءا منها؛ وكأنه يقع ضمن تيار متناقض لا مركزي للحياة، ولا يهيمن ذ بصورة كاملة ذ علي المشهد القصصي. ومن الوظائف التي تكشف عن أصالة التمرد الإنساني علي المرض تلك الهلوسات التي تؤول كصرخات، تؤكد التحول لا الصمت؛ مثل كشف امرأة لنهديها في السوق، وأخري تسب شجرة تبدو كزوجها في المنزل؛ أما الحلاق فقد فضل أن يموت في دكانه، وبيده المقص، ونلاحظ هنا امتزاج نغمة العمل، وذكرياته المتوهجة بصمت الموت؛ مثلما جاءت هلوسات المرأة مثل خصوبة معلقة تواجه الفراغ، أو كحكي مجرد افتراضي يتجاوز منطق الكلام باتجاه الكلام المجرد، دونما دلالة واضحة. إن هذه الصرخات يجمعها وهج خفي للحياة في مستوي طيفي آخر يقع بين أصالة الحياة الأولي، وأخيلتها، واستعاراتها الممكنة. وتبلغ الحياة الصاخبة الافتراضية ذروتها في التوقعات المرتبطة بالحب، والخصوبة بين (نوا)، وزوجته؛ إذ تهيأت لاستقباله، ولتجديد الحب، وأعدت وليمة مصحوبة بأعشاب الخصوبة، بينما يضحك الفيروس؛ لأن الرجل حمل الفيروس من (كانيني)؛ ومن ثم تندمج صورة الطفل الافتراضي المشرقة في وعي الزوجة، بوهج النهايات المتوقعة. هل تمتزج اللذة بالموت، والنهايات، دونما مركزية؟ يبدو أن مثل هذه الحالات التي يقبل فيها المرض، أو الموت، ويتقاطع مع الأخيلة المرتبطة بطاقة الجسد، وتجددها في الخصوبة، يؤيد ذلك الاتجاه التأويلي، مثلما يسخر العمال من المرض الغامض الذي يصيب القرود فقط، ثم يتحسسون مؤخراتهم، ثم يقسمون أن لنوا ذيلا، وأن آخر كان يحب الموز. هذه البهجة التي يستقبل بها العمال المرض تعيد دائرة السخرية، وقهقهة الفيروس في اتجاه إنساني مضاد، ينحاز لتيار الحياة في تقاطعاته الإبداعية الأولي التي يندمج فيها الحب، والضحك، وإنتاجية العمل، والفن، وشكول الحضارة، بذلك الصمت المتوهج الغامض، وبالنهايات، وصورها الحتمية، والصاخبة في آن. ثانيا: تخييل المرض في السياق الاجتماعي: ثمة صلة فنية خفية بين إنتاجية النص، ومحاكاته الساخرة للمركز، وواقع بعض الشخصيات الهامشي في السياق الاجتماعي؛ ومن ثم يبدو المرض كأحد التمثيلات الاستعارية للأبنية الاجتماعية القهرية التي تدفع الشخصية إلي ولوج العوالم الافتراضية، أو منح الساحر (جمادي أحمد) قدرات خارقة، أو الغياب في نماذج النشوة، والصمت التي يفرضها وجود الفيروس؛ ومن ثم لا يمكن فصل الحضور الشخصي الضاحك للمرض عن الأبنية الثقافية التي نشأ فيها. يعزز النص من تصاعد نغمة الرعب التي تهاجم جميع الطبقات، وتحاول السخرية من بنية التجسد، بينما يمنح تلك النغمة أصالة في تاريخ الشخصيات الهامشية؛ مثل (نوا)، وزوجته، والعازف (مونتي)، و(كانيني) التي قتلت بصورة عبثية تشبه لا معقولية المرض، والعمال، وغيرهم. وتتمتع هذه الشخصيات بالخضوع الأصيل للبهجة، والرعب، وكذلك لصرخة التمرد التي تؤول الموت كصرخة مضادة للعدم، وللتهميش في آن. ومن الشخصيات التي يمكن تأويلها وفق المحاكاة الساخرة للذات، وللتهميش الاجتماعي، وللمرض ذ بوصفه قوة مناهضة للجمال ذ شخصية العازف الكونغولي (روادي مونتي)؛ إذ تجتمع فيه عوامل التهميش؛ مثل الوجه المشوه، والملابس القذرة، وعوامل الشهرة الافتراضية كالملصقات الدعائية، وهو يتحدث مع بائعات اللبن عن الموسيقي الفرنسية، ولم يكن لديهن طموح لمعرفة كيف يغسلن شعرهن، ثم يقيم حفلا استعاريا في الواقع، وكأنه يلج العالم الافتراضي الجمالي كبديل عن آلية الموت، والتهميش في الواقع. إن وضع (مونتي) يسخر من ذاتيته، حين يجمع في تكوينه بين التهميش، والشهرة التي تسخر من فن (البوب) في شخصه، أو تحاكيه للكشف عن تناقضات التهميش، والبهجة، كما يحاول في النغمة الثانية، أن ينسخ عالمه الافتراضي الجمالي في وعي النسوة اللاتي يخضعن للبساطة الآلية، والتهميش؛ وكأنه يحاكي الفيروس محاكاة ساخرة؛ فالأخير ينسخ الموت، والرعب، بينما ينسخ (مونتي) الجمال، والموسيقي، ثم يبدو العالم الافتراضي منتصرا في الحفلة المعلقة التي تتهيأ لحدوث آخر مجرد، يتعالي علي الواقع. ثالثا: انتشار الشخصيات كمقاومة للموت: انتشار الشخصيات الفريدة في العمل الروائي تيمة متواترة في كتابات الروائي المبدع أمير تاج السر؛ فهي تحمل بصمة المكان، وثقافاته المحلية، والعالمية، وصورها الإبداعية، كما تشير إلي الأصالة الروحية العميقة المتجاوزة لأبنية التهميش، وهي تبدو هنا كتيار له قوة الوجود النسبي الإبداعي المقاوم لتيار الموت، أو المرض، وتمثيلاتهما؛ فالشخصية تحفر أثرا روحيا يستعصي علي المحو في وعي المتلقي؛ ف (نوا) يمثل مجموعة من النغمات المتناقضة بين الحزن، والنشوة، ومعاينة مآسي القدر، و(مونتي) يمثل نغمة الجمال الساخرة، والمزج بين أصالة الثقافة المحلية، والتفاعل مع السياق الإبداعي العالمي، و(كانيني) متطرفة في النشوة، ووحشية الموت تحت تأثير الماكرو / الكبير المناظر لموت الإيبولا الصغير / الميكرو، و(الزوجة) تمثل تصاعد نغمتي الخصوبة، والموت معا، و(العمال) يحاولون السخرية من الذاتية الجسدية، والموت معا، و(الطفل الافتراضي) يظل معلقا في الوعي، واللاوعي كقوة لنشوء آخر، والطاقة الحياتية تتجدد في قصص حب جديدة، وحوانيت، وسحرة، ومقابر توازي تيار الموت، وتجدد ذكراه في نسق واحد.