وأنا أقرأ آني إرنو، أتذكر جملة جوان ديديون الخاصة بأن الكتابة فعل عدائي يتمحور حول قول "أنا"، حول فرض ذات الكاتب علي الآخرين، حول قوله لغيره: "إنصت إليّ، إنظر بعينيّ، غير رأيك!" مع فارق أن ديديون في رواياتها تعتمد علي التخييل والبنية المركبة علي عكس ما تسلكه في كتبها غير الروائية، في حين أن إرنو تكتب ذاتها وتضع كل تفاصيل حياتها وعلاقاتها تحت المجهر دون حاجة إلي التخييل، كما تبدو غير مهتمة بتغيير رأي الآخرين أو بالتأثير فيهم، وإن كانت تنجح في هذا، إذ يشعر قراؤها بأنها تحكي عنهم، وبأنها تمنح هواجسهم الخاصة ومشاعرهم المسكوت عنها صوتاً. تكتب عن علاقتها بأمها في "امرأة" فتشعر قارئات كثيرات بأن الأم تشبه أمهاتهن، وعن علاقتها بحبيبها في "عشق بسيط" فتبدو كمن تقبض علي جوهر العشق إن كان له جوهر. في تقديمها لترجمتها ل"الحدث" تصف الشاعرة هدي حسين كتابة إرنو بأنها: "تكمل عندي جملاً لم أقلها، وتنهي مراحل لا أرغب في أن أعيشها كاملة." وفي تقديمها لترجمتها ل"البنت الأخري و لم أخرج من ليلي" تكتب الروائية نورا أمين: "لقد عشت قصص آني إرنو كأنها حكاياتي الشخصية. غصت فيها وتجسدتها. توحدت مع صوتها حتي خُيِّل إليّ أحياناً أنها تكتبني بشكل شخصي." أنا أيضاً ينتابني إحساس مشابه حين أقرأ أعمال إرنو، رغم انحيازي عادةً للتخييل والتركيب. إلا أن التماهي بيني وبين إرنو تضاعف أثناء قراءة "البنت الأخري" (صدرت بالفرنسية في 2011) لسبب أساسي هو أني فقدتُ أختاً صغيرة مثلها، وكتبت عنها قصة بعنوان "فتاة فبراير" ضمن مجموعتي القصصية الأولي. الفارق أني رأيت شقيقتي الصغيرة "ياسمين"، التي رحلت بعد شهرين من ميلادها، أما إرنو فوُلِدت بعد وفاة شقيقتها "جينيت" بعامين، ولم تعرف بأمرها سوي وهي في العاشرة، إذ ظلت الصغيرة الراحلة السر المقدس في حياة الوالدين، وعاشت كاتبتنا في ظل الطيف المهيمن لمن خنقتها الدفتيريا. ولأن الصور القديمة هي كل ما يربط "البنتين"، تبدأ آني "البنت الأخري" بوصف صورة سِبيا، بيضاوية للرضيعة جينيت، وكيف كانت تظنها صورتها هي، أي أننا منذ البداية نجد أنفسنا أمام التباس: أنا/ هي. وهو الالتباس المهيمن علي النص بكامله بداية من العنوان. فما يطرأ علي الذهن حين نقرأ عنوان "البنت الأخري" هو أن الإشارة هنا للأخت المحكي عنها، غير أننا نكتشف لاحقاً أن الكاتبة تقصد نفسها ب"البنت الأخري"! فالذات تخلت عن مركزيتها وصارت آخر، والأخت الغائبة احتلت المركز وأزاحت أختها الحاضرة إلي الهامش. علاقة الإخوة نفسها مشكوك فيها وفقاً لإرنو، حيث لا يقرها سوي السجل المدني. "لكنك لست أختي، لم تكوني أبداً أختي. لم نلعب سوياً ولم نأكل سوياً ولم ننم سوياً. لم ألمسك أبداً، ولم أعانقك. لم أرَ أبداً لون عينيك. لم أركِ أبداً. أنت بلا جسد، بلا صوت، مجرد صورة مسطحة في فوتوغرافيا الأبيض والأسود." المشاعر التي تعبر عنها الكاتبة هنا بالغة التعقيد، فهي خليط من الغيرة والتنافس مع ظل خفي، والذنب لأنها نجت من التيتانوس فيما رحلت شقيقتها التي هي دافع الحكي ومبرره. "أنا لا أكتب لأنكِ متِ. لقد متِ من أجل أن أكتب. هناك فارق كبير."، لكن كيف تكتب إرنو ما لا تعترف بوجوده، ما لم تره سوي كغياب تام مخبَّأ في قلبيّ الأب والأم باعتباره سرهما الأعظم؟ تفعل هذا عبر رصد وتشريح تأثير كل هذا عليها هي: "ليس لكِ وجود إلا عبر بصمتكِ علي وجودي. أن أكتبكِ هو إلا أتعدي معاينة غيابكِ. إنكِ شكل فارغ يستحيل ملؤه بالكتابة." اللافت أن آني إرنو تصف نصها، في أكثر من موضع، بالرسالة. وهو فعلاً رسالة موجهة لجينيت أينما كانت. والتحدي الماثل هنا، هو أن "ضمير المخاطب فخ. ففيه شيء خانق، ويقيم بين الأنا والأنت حميمية متخيلة بفوحان الشكوي، إنه يقرِّب كي يلوم. وبرقة يميل إلي أن يجعل منكِ سبب وجودي، وأن يحط من شمولية وجودي بسبب اختفائك." هكذا تواصل إرنو الجري وراء ظل، معتبرة أن رسالتها المكتوبة لجينيت رد دين متخيل بأن تمنح أختها الوجود الذي منحه لها موتها، فلو عاشت جينيت لما أتت آني إلي العالم لأن أبويها كانا مصممين منذ البداية علي إنجاب طفل واحد فقط. النص الثاني الذي يضمه الكتاب الصادر مؤخراً عن دار أزمنة، هو "لم أخرج من ليلي" الذي سبق أن صدرت طبعته الأولي عن المركز القومي للترجمة، وتسرد فيه إرنو قصة مرض أمها بالزهايمر وتفاصيل إقامتها في قسم المسنين بمستشفي "بونتواز". الكتاب، الصادر بالفرنسية عام 1997، تم تدوينه علي هيئة يوميات أثناء مرض الأم التي يعرفها قراء آني إرنو جيداً عبر نص "امرأة". في "لم أخرج من ليلي" يتعرف القراء علي وجه آخر للسيدة دوشاسن هو وجه المرض والأفول، وعلي ملمح مختلف من علاقة الكاتبة بها. سواء في "البنت الأخري" أو "لم أخرج من ليلي"، تحافظ آني إرنو علي سرها الخاص ككاتبة تجيد النفاذ إلي أعماق المشاعر الإنسانية بكل تعقيدها. وأخيراً تبقي الإشارة إلي المقدمة الكاشفة التي قدمت بها نورا أمين النصين، والتي تعد مدخلاً مثالياً للتعرف علي إرنو وعالمها الأدبي.