ليس شبح الدولار وحده أو عجز الموازنة هو المسئول عن الغلاء والانفلات في أرتفاع الاسعار الذي نعاني منه الآن.. قبل شبح الدولار وعجز الموازنة هناك الاحتكار الذي جعل هامش الربح في كل السلع المتداولة في أسواقنا ضخما جدا وصار لا يقل منذ سنوات طويلة عن 150٪ وأحيانا يصل إلي 250٪ بينما لا يزيد هامش الربح في الدول صاحبة الأسواق المفتوحة والاقتصاديات الرأسمالية العريقة عن 30٪ لأن أسواقها تعتبر المنافسة قاعدة أساسية فيها، ولانها لا تسمح بوجود احتكارات تسيطر علي انتاج وتجارة واستيراد السلع كما هو الحال عندنا. وهكذا.. الغلاء عندنا هو ابن الاحتكار الذي يسيطر علي اقتصادنا وعلي أسواقنا.. لا توجد سلعة أو خدمة أساسية أو ثانوية لا يتحكم فيها، انتاجا أو تجارة، مجموعة محدودة من المحتكرين لا تزيد في بعض الاحيان علي عشرة محتكرين كبار.. هؤلاء هم الذين يتحكمون في تحديد أسعار بيع هذه السلع والخدمات وهي عادة أسعار ارتفعة مغال فيها نظرا لاصرارهم علي أن يكون هامش الربح الذي يحصلون عليه هم وبقية التجار كبيرا وضخما.. لقد قال لي صاحب مزرعة فواكه في طريق القاهرةالاسكندرية الصحراوي أنه باع كيلو العنب من مزرعته هذا الموسم بنحو جنيه وربع، بينما يشتريه المستهلك في نهاية المطاف بنحو عشرة جنيهات وربما أكثر لبعض الانواع وفي بعض المناطق.. وقس علي ذلك بقية كل الفواكه والخضراوات وكل السلع الغذائية وغير الغذائية. بل لقد وصل الأمر لدي بعض التجار أنهم يقبلون بأن تتلف الخضراوات والفاكهة التي يبيعونها ويتخلصون منها بالقائها في القمامة ولا يقومون بتخفيض أسعارها.. هذا يكشف أن الاحتكار في بلدنا صار منظومة وأسلوب عمل ممنهج يلتزم به التجار الصغار والتجار الكبار أيضا. ولذلك.. لا سبيل جاد وفعال لمواجهة الغلاء الذي نعاني منه، والذي يلتهم الدخول الحقيقية للاغلبية الكبيرة من المصريين سوي مواجهة ومحاربة هذا الاحتكار والقضاء عليه. نعم هناك جهود تبذل منذ سنوات في هذا الصدد بقيام وزارة التموين بتوفير كميات من السلع بأسعار مخفضة في منافذ المجمعات التعاونية، وقيام وزارة الزراعة بإتاحة منافذ بيع متحركة للخضر والفاكهة واللحوم، وطرح القوات المسلحة في منافذ خاصة لها كميات أخري أيضا من السلع الغذائية.. لكن كل ذلك لم ينل من منظومة الاحتكار التي تسيطر علي اقتصادنا وعلي أسواقنا وتجعل المحتكرين، خاصة الكبار منهم - يتحكمون في تحديد أسعار السلع الاساسية وغير الاساسية بعد ابطال قانون العرض والطلب.. ولذلك شهدنا ارتفاعا دائما في الاسعار حتي في ظل زيادة المعروض من السلع وانخفاض الطلب أحيانا!.. وهذا ما حدث بالنسبة للارز الذي زاد المعروض منه وظل سعره مرتفعا ولم ينخفض الا داخل منافذ القوات المسلحة ووزارتي التموين والزراعة، وما حدث أيضا بالنسبة للسيارات التي مازالت أسعارها ترتفع رغم انخفاض حركة شرائها. وهذا يعني أننا نحتاج مواجهة مختلفة للاحتكار الذي يسيطر علي اقتصادنا وأسواقنا تولد لنا غلاء يلتهم دخولنا و بالتالي يخفض من مستوي معيشتنا ، والدليل الزيادة المستمرة في نسبة من يعيشون تحت خط الفقر والتي ارتفعت إلي 27.8٪عام 2015من السكان مقابل 26.3٪ من السكان قبل عامين، واذا أضيف إليهم من يعيشون علي هامش هذ الخط، فإننا سنجد أنفسنا أمام نحو نصف السكان يعانون بشدة من هذا الغلاء. وهذه المواجهة المختلفة تبدأ بحالة جرد ومراجعة لاحوال اقتصادنا وأسواقنا ولنبدأ بالسلع الاساسية والضرورية لنعرف من يتحكم في انتاجها وتجارتها أو استيرادها اذا كان نستورد معظمها من الخارج مثل الزيوت ، أو نسبة كبيرة منها مثل اللحوم.. يجب أولا أن نتعرف علي هؤلاء المحتكرين في كل سعلة انتاجا وتجارة واستيرادا.. ولن نجد صعوبة في ذلك لان لدينا كما كبيرا من الدراسات تعدي أصحابها لذلك الامر من قبل ورصدوا لنا المحتكرين بالاسماء والاعداد، والمطلوب فقط تحديث هذه البيانات والمعلومات . وبعد ذلك نبدأ في وضع خطة لتفكيك الاحتكارات في كل سلعة وذلك أولا بتوسيع قاعدة المنتجين لها وقاعدة كبار تجارها أو تجار الجملة فيها، وقاعدة مستورديها بقرارات اقتصادية وليست بالطبع ادارية.. ولن يتم ذلك الا اذا انتهجنا سبيل توسيع قاعدة المستثمرين بدلا من الاعتماد علي عدد محدود من كبار رجال الاعمال كما فعلنا منذ سنوات، ومازلنا نفعل حتي الآن. ثم تأتي فيما بعد مراجعة قانون الاحتكار ليس فقط بتغليظ عقوبة الممارسات الاحتكارية، وإنما لتشجيع الابلاغ عن المحتكرين وليس عقابهم، ودعم جهاز مواجهة الاحتكار حتي يصبح قادرا علي أداء واجباته في هذا الصدد. لقد قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لو كان الفقر رجلا لقتلته والآن حان الوقت لكي تقول حكومتنا لو كان الاحتكار رجلا لقتلته. حان قتل الاحتكار لانه هو الذي يولد لنا الغلاء الفاحش.. وهذا الغلاء هو الذي يصنع لنا الفقر ويزيد عدد الفقراء يوما بعد آخر.