بعد أكثر من 40 عاما من عملي بأشرف وأنبل مهنة، أراجع ما مضي من تلك الأعوام، طارحا علي نفسي السؤال : هل مازالت الصحافة مهنة للبحث عن المتاعب، هل مازالت " السلطة الرابعة " التي تراقب وتفضح وتحاسب، هل مازالت " صاحبة الجلالة " التي كنا نفخر في شبابنا أننا نعمل خدما للحقيقة في بلاطها ؟ لن أجيب علي تلك الأسئلة، إنما أترك الإجابة للكاتب الصحفي الراحل الكبير إبراهيم الورداني الذي تتلمذ علي يد أمير الصحافة محمد التابعي في " آخر ساعة " وأصبح بعد ثورة يوليو 1952 رئيسا لتحرير جريدة الجمهورية، وللقارئ أن يقارن بين ما يرويه الورداني وما يسمعه الذين دخلوا بلاط الصحافة في السنوات الأخيرة فباعوا هيبتها بالعمل تحت جناح سطوة رأس المال، أو الانكفاء تحت أجنحة الوزراء كمستشارين، وما خفي أعظم ! تعالوا نقرأ معا ما كتبه الورداني عندما كان محررا ناشئا تحت رئاسة التابعي، فهو يصف كيف غضب التابعي من الرقيب الذي شطب ثلاث صفحات من " آخر ساعة "، وكيف أخذه التابعي معه إلي وزير الداخلية فؤاد سراج الدين، فيقول: " وركبت بجوار الأستاذ ومعي البروفة في سيارته الرولز رويس الباهرة الفاخرة، وطربوشه المائل علي الحاجب يهتز من شدة ما هو منفعل وغاضب، مرقت السيارة من بوابة الداخلية والعساكر تعظيم سلام، والتابعي بأرستقراطيته النفاذة يقتحم الأدوار والردهات والحجرات، والناس له ينحنون ويفسحون، ثم تندفع خطوات حذائه نحو مكتب مزدحم بأطقم من أفخر الرياش، شاب فائح الأناقة "مدير مكتب الوزير" يقفز مهرولا منحنيا للتابعي، وقبل أن يحاول الشاب الدخول وهو يفتح الباب مواربًا علي غرفة الوزير سبقته خطوات التابعي العصبية وهو يجرني من ذراعي، وبركلة من حذائه دفع الباب ليُفتح علي المصراعين، نعم فتح الباب بركلة من حذائه، ويا له من منظر لا أنساه، الباشا المرعب الذائع الصيت فؤاد سراج الدين وزير الداخلية والحاكم العسكري والآمر الناهي في كل بر مصر، منجعص خلف مكتب مطعَّم بالأبانوس والقطيفة الخضراء، والبللور الضاوي له بريق الذهب ورائحة البنكنوت الطازج، في فمه سيجار وفي إصبعه خاتم له شكل الفانوس، يجلس أمامه كرشان فخمان، الباشا عثمان محرم والباشا عبد المجيد صالح، هب الثلاثة الفخام العظام في استقبال التابعي وأذرعهم تفرد نفسها لطويل العناق، لكن التابعي توقف في منتصف الحجرة متجاهلا الأذرع الممدودة وانطلق مزمجرًا معنفاً مخيفاً بكلام خلاصته الرفت الفوري لهذا الرقيب الوقح وأن يسمع الاعتذار من وزير الداخلية وفورًا، يا له من مشهد انزرع في العين والباشاوات الفحول يهدئون الصحفي المنفعل الغضوب، يدللون ويسترضون بل يتزلفون، واهدأ يا محمد، روّق يا تابعي، نرفت لك الرقابة كلها يا سيدي بل تعتذر لك أجهزة الحكم كلها، كل هذا وأنا جالس علي طرف المقعد منكمشًا مبهورًا ذاهلا، وريفيتي المفرطة لا تصدق أن يكون للقلم الصحفي مثل هذا السلطان، انزرع المشهد في عيني ومشاعري وعلي أسطر ضلوعي وكأنه التقييم الهائل لقيمة الصحفي في بلاط الحكم والسلطان، يا إلهي كيف لا يتعامل الصحفيون والكُتّاب بمثل هذا الشمم وتلك الكبرياء، لم أسأل وقتها من أين هذا السلطان، ومن أعطاه، ولحساب من، إنه الشعب، هو وحده الذي يعطي مثل هذا السلطان"! وبعد.. هل الصحافة الآن.. مازال لها بلاط.. ومازالت صاحبة الجلالة ؟ !