لماذا فرنسا هي الأكثر استهدافا من قبل داعش؟ يجب أن نتذكر أن فرنسا واجهت هجمات للمتشددين منذ أكثر من عشرين عاما، ففي عام 1994 تم تحويل مسار طائرة إيرباص فرنسية بمعرفة الجماعة الإسلامية في الجزائر GIA، ومنذ ذلك الحين لم يزل خطر الهجمات الإرهابية تماماً عن فرنسا. كما يجب التنبه إلي أن عدة بلدان أوروبية أخري تعرضت لهجمات إرهابية (ألمانيا-السويد- بلجيكا - أسبانيا - المملكة المتحدة)، وهناك عمليات توقيف لمشتبه بهم أسبوعياً إن لم يكن يومياً، علي مستوي القارة الأوربية. علي كل حال فإن النقاش في فرنسا ما زال جارياً لفهم هذه الظاهرة المعقدة بشكل أكبر مما تبدو عليه ظاهرياَ، ولا يمكن الاكتفاء بإجابة واحدة، ويبدو أن المؤرخين فقط سيمكنهم الإجابة مستقبلاً، حيث أن التحدي الأمني له جذور واقعة في مزيج من أزمات اجتماعية في حقبة ما بعد الاستعمار المليئة بالتوترات والإدانات لنهج الدبلوماسية الفرنسية في أوساط الإسلام السني. ما الذي يهدف إليه داعش من خلال ذئابه المنفردة وكيف تفسر هذه الظاهرة الجديدة؟ حقيقة الأمر أنها استراتيجية قديمة استخدمها تنظيم القاعدة في أواخر التسعينات، وباركها عدد من خبرائه الاستراتيجيين، والفكرة باختصار تقوم علي تنفيذ تلك الهجمات من خلال رجال ونساء لا يمكن تتبعهم علي اعتبار أن تجنيدهم لم يحدث بشكل مباشر وإنما من خلال تأثرهم بالأفكار الجهادية من خلال الانترنت، ودون حصولهم علي أي دعم لوجيستي. في الوقت الراهن لا يمكن وصفهم بالمنفردين، وإن كانوا يعملون كأفراد، ويبدو أن ذلك مربح سياسياً بالنسبة للجماعات الإرهابية، فبعد هجمات السويد في 2010 ثم فرنسا 2012 أصبحت تلك الهجمات اتجاهاً عاماً يوقع الكثير من الضحايا علي غرار ما شهدناه مؤخرا في نيس (حادثة الدهس بالشاحنة التي أدت لمقتل 85 شخصاً) وقبلها هجمات باريس (13 نوفمبر 2015 التي أدت لمقتل 130 شخصا)، فمن الواضح أن داعش يستفيد من جملة ظروف سياسية واجتماعية تمنحه عدداً مرعبا من المتطوعين. هل الضربات التي يتلقاها داعش في سورياوالعراق تشير إلي أنه في طريقه لخسارة الحرب؟ وإذا كانت الإجابة نعم هل سيقلل ذلك من هجماته في أوروبا؟ من المؤكد أن داعش يواجه صعوبات كبيرة في سورياوالعراق، ولكن هزيمته عسكريا بشكل كامل أمر لا يمكن حدوثه في يوم وليلة. كما أن إخفاقات داعش في البلدين لن يكون لها تبعات سياسية ودبلوماسية ولن تحل الأزمة بأي حال من الأحوال، لا سيما وأن التنظيم الذي كان لفترة طويلة منظمة سرية يجهز لعودته إلي الظل، خصوصا وأن هزيمته عسكريا لا تعني انتزاعه من جذوره واختفائه تماما، وهو ما يعني أنه سيكون قادراً علي تنفيذ هجمات لأشهر إن لم يكن لسنوات مقبلة. ولا تنسي أن داعش يعتمد حاليا علي شبكات إرهابية موجودة في أوروبا حتي قبل إعلانه الخلافة المزعومة في يونيو 2014، علماً بأن منفذي هجمات مسرح باتاكلان (13 نوفمبر2015) كانوا أعضاء في جماعات إرهابية منذ 2009، وإذا كانت هزيمة داعش ستحرم هذه الشبكات من دعم مالي ولوجيستي (بسيط جدا في كل الأحوال)، فإنها لن تجبر التنظيم علي إلقاء السلاح، بل ربما العكس.. هزيمة داعش في سورياوالعراق أمر ضروري ولكن لا يجب أن ننتظر منه نتائج فورية علي صعيد الأمن في أوروبا. هل ارتكبت الإدارة الأمريكية أخطاءً بمساندتها الربيع العربي الذي قادنا في النهاية إلي إفراز داعش؟ لا يمكنني الجزم بأن الولاياتالمتحدة أو فرنسا أو أي جهة أخري تسببت في ثورات 2010 و2011، ولكن كان من المنطقي أن يكون للديموقراطيات الغربية ردة فعل وأن تتمني انتقالا إيجابيا للسلطة، وفي هذا الصدد كان التدخل العسكري الغربي في ليبيا بعد عدة أسابيع من بدء التمرد علي القذافي وقيام المتمردين بحمل السلاح بالفعل، فالحرب الأهلية الليبية تندرج في تاريخ بلد لم يكن أبداً أمة في يوم من الأيام، وذلك علي العكس من مصر. أما في سوريا فقد كان العنف والقمع حاضرين من بداية المشهد وتردد الغربيون في اتخاذ أي رد فعل لفترة طويلة، حيث كان من الواضح أنهم بلا استراتيجية، ونحن كخبراء كنا نعلم ما لا يريدونه ولكننا عانينا كثيراً لكي نفهم ماذا يريدون، وكيف يمكنهم الحصول عليه. وكان أول تدخل أجنبي يحدث في سوريا من خلال جهاديين قادمين من العراق وهؤلاء لم يساندهم أحد. يجب إعادة التفكير في الثورات الكبري عبر التاريخ، وما تبعها من فترات عدم استقرار علي غرار ما حدث في إنجلترا في القرن السابع عشر، وفي فرنسا بعد ثورة 1789، وكذلك عقب الثورة البلشفية في روسيا 1917، والخيارات الدبلوماسية لهذا الطرف أو ذاك لم تكن ذات صلة بالأحداث، ولكن عنف داعش والقاعدة له دوماً أسباب داخلية في البلدان التي طالها ذلك العنف، فالأسباب التي نفسر بها الإرهاب في فرنسا صالحة لتفسير الإرهاب في اليمن وتونس حيث تختلط أسبابا محلية بأسباب عالمية. لماذا ينجذب شباب أوربيون تربوا وتعلموا بالقارة العجوز نحو داعش؟ أنت علي حق في إشارتك إلي أن الظروف الاقتصادية في أوروبا وفي أي مكان آخر لا تفسر كل شئ، كما أن وصف المنفذين بالخلل العقلي ليس مرضياً.. اليوم يجب الاعتراف بأن أوروبا وربما العالم الغربي بأكمله يعاني أزمة مجتمعية، فالجهاديون الأوربيون الذين التحقوا بداعش والذين سبقوهم إلي أفغانستان كانوا مغرمين بمشروع سياسي راديكالي يقدم لهم أجوبة وإن كانت عنيفة علي أسئلتهم، كما أن منهم من كان يبحث عن معني جديد لحياته وعن حب المغامرة بمحاولة استعادة ثقافة قديمة يرونها دائماً معرضة للهجوم من الآخرين.