ليس هناك خطة (ب). الخطة (أ) الحالية وهى القضاء على داعش عسكريا سنواصل السير عليها وستنجح"، يقول مسئول غربي مطلع موضحا خيارات أوروبا والعالم بعد الهجمات الإرهابية على بروكسل والتهديدات المحدقة بدول أوروبية أخرى على رأسها بريطانيا وألمانيا . وذلك وسط قلق بالغ من أن أوروبا وأمريكا بلا أية استراتيجية فيما يتعلق بمواجهة داعش والتنظيمات المماثلة لها التي تنتشر في سورياوالعراق وتبث الرعب في العالم. يوضح المس'ول الغربي الذي يعمل في وزارة خارجية دولة أوروبية ومسئول عن ملف الإرهاب ولا يستطيع كشف هويته ل”الأهرام” أن هناك مئات المقاتلين المنتمين أو المتعاطفين مع داعش الذين دخلوا أوروبا في الأشهر الأخيرة. الكثير منهم جاء بهدف وحيد وهو شن هجمات في أوروبا. وبحسب إستخبارات غربية فإن داعش دربت نحو 400 مقاتل لشن هجمات إرهابية داخل أوروبا في المناطق التي تسيطر عليها، خاصة مدينة الرقة عاصمتها في سوريا. لكن هناك أيضا معسكرات تدريب في العراق وبعض الجمهوريات الاسلامية في الكتلة السوفيتية السابقة. كما أن هناك عناصر من داعش تتحرك بين تركيا والأردن لتجنيد سوريين من مخيمات إيواء اللاجئين بهدف إرسالهم لاحقا إلي أوروبا. لكن يظل الخيار الأسهل، خصوصا فيما يتعلق بضمان حرية الحركة والتنقل داخل أوروبا، هو تجنيد الشباب المسلم من أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين من المغرب العربي. ويقول المسئول الغربي في هذا الصدد:”للأسف تجنيد شباب أوروبي مسلم لم يكن أسهل مما هو عليه اليوم. لقد أستطاعت داعش أن تصل إلي عقول هؤلاء، بترويج شعار يمكن تلخيصه كالتالي:(الإسلام يحتاجكم). وهذه الدعوات وجدت صدى لدى الكثيرين”. ويعترف مسئولون وخبراء أمنيون أن هناك صعوبة متزايدة في تتبع ووقف الهجمات الإرهابية المحتملة في أوروبا، وذلك بسبب تغيير داعش لطريقة عمل الخلايا التي تتبع لها أو تدين لها بالولاء. إذ لم تعد داعش تعتمد على خلايا منفصلة لكل منها هدف أو مهمة معينة، بل باتت تعتمد على عدد من الخلايا المتشابكة التي تتحرك بحرية داخل أوروبا، وتنسق فيها بينها وتتكامل فيما بينها. بمعني أخر أنها خلايا سائلة تتحرك بكثير من المرونة بحسب الأوضاع على الأرض، وتركت لها قيادات داعش في سوريا حرية إتخاذ القرار حول مواعيد وأماكن شن الهجمات بحسب التطورات على الأرض. وبعد هجمات باريس في نوفمبر الماضي، كتب كلينت واتس الخبير الأمريكي في قضايا الإرهاب عن ما أسماه “قمة جبل الثلج” للمؤامرات الإرهابية، موضحا أنه في كل مؤامرة يظهر فقط رأس متطرف أساسي، لكن الواقع أن هذا الرأس يخفي شبكة واسعة من المساعدين والمتعاونين والمتعاطفين الذين لا يظهرون للعيان. بمعنى آخر ما نراه هو غيض من فيض. ويعتقد واتس ان المتورطين في هجمات بروكسل، تورطوا أيضا في هجمات باريس وأن هناك مجموعات منهم كامنة في مكان ما تجهز ربما لهجوم جديد لا يعرف عنها أحدا شيئا. وفيما تعيش أوروبا في منطقة داكنة من الخوف والترقب والإستعداد للأسوأ، يجد الكثير من الخبراء أنفسهم أمام معضلة الإجابة على سؤال: ماذا تريد داعش؟. ففي نهاية المطاف ليس هناك هدف إستراتيجي أو مكسب إستراتيجي يمكن أن تجنيه داعش من نشر الرعب المجاني والموت العشوائي في شوارع أوروبا. فمساحة تمددها جغرافيا في سورياوالعراق تتقلص بإضطراد مع تقدم القوات الحكومية في سورياوالعراق مدعومة بقصف جوي امريكي وروسي. لكن المسؤول الغربي يوضح أن هدف داعش الاستراتيجي ربما يكون إجبار الغرب على وقف العمليات العسكرية ضدها. ويتابع:”الهجمات على أوروبا لا شك جزء منها رسالة للغرب مفادها: أوقفوا الحملة العسكرية على داعش في سورياوالعراق”. ويضيف:”داعش ستحاول إستنزاف الغرب على خلفية الحرب في سورياوالعراق، على غرار إستنزاف طالبان للغرب في افغانستان حتى لا يعود هناك مفر من الانسحاب وترك الأرض لداعش”. ورغم التحدي غير المسبوق الذي تواجهه أوروبا، يحذر الكثيرون من التمادي في المعالجة الأمنية فقط. وبحسب المسئول الغربي: “حساسية الوضع تنبع من ضرورة وجود رد يحمي المواطنيين من ناحية بدون أن يؤدي إلى تهميش أو إقصاء المسلمين الأوروبيين من ناحية أخرى. أو إعطائهم إنطباعا أنهم جميعا مستهدفون بسبب هويتهم الدينية”. مشاعر التهميش أو الإستهداف التي يشعر بها بعض مسلمي أوروبا كانت حاضرة بجلاء في مشهد إلقاء العشرات من مسلمي بروكسل زجاجات مياه على قوات الشرطة البلجيكية التي جاءت لإلقاء القبض على مشتبه فيهم. وهناك مشاعر تهميش وإستهداف مماثلة لدى قطاعات من مسلمي بريطانيا والمانيا وهولندا وفرنسا، لكن تظل الحالة الأوضح للعيان هى بلجيكا. فمنها خرج مئات المقاتلين الذين توجهوا للقتال في سورياوالعراق. وعبر بلجيكا تم التخطيط وتنفيذ هجمات إرهابية هزت أوروبا من بينها الهجوم على مجلة “تشارلي ابدو” وهجمات باريس الإرهابية قبل نحو ثلاثة أشهر. فلماذا بلجيكا بالذات وكيف أصبحت بروكسل عاصمة التطرف والجهاديين في أوروبا. هناك الكثير من العوامل المتشابكة من بينها: أولا: غالبية المهاجرين من المغرب العربي إلى بلجيكا، وهولندا أيضا، هاجروا من مناطق ريفية شمال المغرب. وبحكم التكوين الريفي يغلب على غالبيتهم الطابع المحافظ دينيا وثقافيا واجتماعيا. وتقول سلمى قدوري، وهى ناشطة بلجيكية من أصول مغربية في قضايا التعايش والإدماج في أوروبا ل”الأهرام”:”الكثير من المهاجرين الأوائل كانوا يذهبون وهم يحملون توجهات محافظة على الصعيد الديني والثقافي، وكانت هذه التوجهات تزداد محافظة في أوروبا لا العكس. فبسبب الخوف من تغيير الهوية الثقافية والدينية يتجه الناس للمزيد من المحافظة خوفا من فقدان جذورهم”. وتدريجيا باتت بروكسل هى محطة القادمين من المناطق الريفية من المغرب تحديدا. كانت أحياء بأكملها تجر بعضها البعض للهجرة وتدريجيا بات هناك مغرب صغير في بروكسل. وتقول قدوري:”هناك أحياء ومناطق بأكملها هى أسميا جزء من بلجيكا لكن فعليا كأنها تنتمي لعالم أخر. كأن هناك جدارا فاصلا”. ثانيا: ارتفاع معدلات البطالة في بلجيكا، خاصة بين أبناء الجيل الثاني من المهاجرين من المغرب العربي الذين هاجروا منذ الحرب العالمية الثانية للعمل في قطاعات الصلب والفحم لتغطية نقص اليد العاملة في أوروبا بعد الحرب. وتوجد أعلى معدلات بطالة في منطقة “مولينبيك”، حى الطبقة العاملة في بروكسل الذي بات يعرف ب”عاصمة الجهاد” في أوروبا، إذ تصل نسبة البطالة في المنطقة إلي 31%، فيما المتوسط من 20% إلي 25%. ويعيش في هذه المنطقة الصغيرة نحو 90 ألف نسمة، 30% منهم من أصول غير بلجيكية. والكثير من الشباب المسلم في المنطقة يعاني من التهميش والتمييز ما يجعله هدفا سهلا للإستقطاب والتجنيد. وأبرز دليل على هذا أن الرأس اللوجستيكي المدبر لهجمات باريس صلاح عبد السلام وشقيقه إبراهيم عبد السلام ولدا وعاشا كل حياتهما في منطقة “مولينبيك”. ثالثا: بلجيكا في قلب منطقة شنجن ما يعني سهولة أكبر في حرية الإنتقال. ويقول ريتشارد ويتمان زميل زائر في “مركز تشاثاوم هاوس” للدراسات في لندن:”بروكسل هي العاصمة الدبلوماسية والعسكرية لأوروبا. فهناك المؤسسات الأوروبية، لكن هناك أيضا حلف شمال الأطلنطي ومؤسسات أوروبية أخرى. إذا كان هناك أي مدينة مشابهة لواشنطن في أوروبا، فهي بروكسل”. رابعا: بروكسل معروفة بتجارة الأسلحة غير الشرعية. ففي الهجوم على مجلة تشارلي ابدو الساخرة في يناير الماضي، اشترى الإرهابيون الاسلحة التي أستخدمت في الهجوم من بروكسل. خامسا: بسبب الطبيعة الكوزموبوليتنية لبروكسل والتعدد العرقي واللغوي الهائل فيها بسبب وجود موظفي المؤسسات الاوروبية وحلف الناتو، تعد بروكسل مكانا مثاليا للإختفاء والتماهي، إذ إن تعدد ألوان البشرة والتعدد اللغوي والديني هو سمة المكان ولا يعد أمرا لافتا للإنتباه أو مثيرا للشكوك. سادسا: تأثير العراقوسوريا التي أدت إلي تجنيد آلاف الجهاديين من كل مكان في العالم تقريبا. لكن بلجيكا كانت نقطة رخوة أكثر من غيرها. ووفقا للمركز الدولي لدراسات التطرف والعنف السياسي، فإن متطرفين خرجوا من بروكسل أكثر من أي مدينة أوروبية أخرى نسبة إلي عدد السكان. وهناك نحو 450 بلجيكي غادروا البلاد للقتال في العراقوسوريا. سابعا: أزمة هوية إذ يتحدث غالبية الأئمة في بلجيكا اللغة الفرنسية، فيجد الشباب المسلم في الجزء الشمالي من بلجيكا الذي يتحدث الهولندية أن الملجأ الوحيد لمعرفة الدين هو الأنترنت، ما يجعلهم يقعون فريسة الأفكار المتطرفة. ومنظمة مثل “الشريعة من أجل بلجيكا” أستغلت هذا الفراغ وقامت بتجنيد عناصر قريبة أو محسوبة على داعش. ويقدر المسؤولون البلجيكيون أن نحو 10% من البلجيكيين الذين سافروا للقتال في سوريا لهم صلات ب”الشريعة من أجل بلجيكا”. ويرتبط بهذا أن المسلمين الآتين من المغرب العربي لم يجدوا أمامهم لتعلم الإسلام في الدول الأوروبية التي هاجوا إليها، سوي أئمة ودعاة يروجون للأفكار السلفية. وجل المساجد والمراكز الإسلامية في أوروبا تم إنشاؤها برأس مال ودعاة من الخليج عززوا التوجهات الراديكالية. وزاد الوضع تعقيدا أن تجربة دمج السكان المسلمين مع باقي السكان في فرنساوبلجيكا وبلاد أوروبية أخرى لم شهد دوما نجاحا بسبب التصادم بين الحكومات الأوروبية والجاليات الإسلامية حول قوانين من بينها منع النقاب في الأماكن العامة الذي طبقته فرنساوبلجيكا. بعد هجمات 11 سبتمبر، سارعت امريكا وحلفائها إلي شن حروب مدمرة في افغانستان ثم العراق بحجة أنه “من الأفضل مواجهة الإرهاب في أراضيهم وليس أراضينا”. وتوسعت امريكا والغرب في الحرب عل الارهاب لتشمل قصف باكستان واليمن والصومال. لكن الهجمات الارهابية التي ضربت أوروبا على مدار الأعوام القليلة الماضية من فرنساوبلجيكا إلي بريطانيا وأسبانيا، تظهر الفشل الكامل للإستراتيجية الغربية. فداعش وأمثالها من التنظيمات الإرهابية نقلوا المعركة إلي قلب أوروبا.