ما زالت حلقات مسلسل الإهمال مستمرة بلا نهاية, وتشهد شمس كل يوم جديد ضحية, يكتب اسمها بلا رادع لظالمها والسبب في عذابها إلا الله عز وجل فى ظل ضياع صوت الحق, وغياب القانون الذى يحكم المجتمع وغياب الضمير الذى يحكم النفس البشرية. ميسون طفلة عمرها 4 سنوات ضحية جديدة للإهمال , طفلة أدمت قلوب أهالى بورسعيد وأبكتهم دما بعد الحادث المروع الذى تعرضت له و أطفأ شمعة حياتها الصغيرة لتلقى حتفها محترقة ومتفحمة من قدمها حتى رأسها , فى أكبر مثال على موت الضمير الانسانى فى النفوس الضعيفة التى اصبحت تحاصرنا أينما ذهبنا. والد ميسون هو عبده السيسى والذى يعمل مساعد مدير عام بإدارة الائتمان ببنك التنمية الصناعية والعمال المصرى, لم يتمالك نفسه والدموع تفارق عينيه رغما عنه , وهو يردد دائما الحمد لله راضيا بقضاء الله وقدره , ضاربا مثالا غير عاديا فى التماسك وشدة الإيمان قال أنه يجد ابنته شهيدة , وأن أهالى المنطقة أطلقوا عليها لقب الشهيدة ميسون. ليلة الحادث يقص الأب أنه كان هو وزوجته ليلة الحادث فى محافظة القاهرة يقومان بعمل الإجراءات اللازمة لزرع الكلى لزوجته التى تعانى فشلا كلويا منذ فترة ، وهو ما اضطره إلى الإبقاء على طفلتيه الصغيرتين عند والدة زوجته المسنة بمساكن أبو بكر ببورفؤاد. ويقول الأب فى حزن شديد أن ابنته الكبرى ايمان تبلغ من العمر 6 سنوات ، والصغرى ميسون وعمرها 4 سنوات , تركهما فى رعاية الجدة وسافر بصحبة الأم , وكانت الجدة تنتظر وصول عمال الغاز الطبيعى كسائر سكان المنطقة , وهناك يدخل الغاز الطبيعى للمنطقة بأساليب عقيمة تتبعها شركات الغاز، حيث يتم تركيب المواسير ثم يعانى السكان من روتين طويل المدى حتى يصل إليهم الغاز الطبيعى. عمال الغاز الطبيعي ويكمل الأب أن الجدة قامت مؤخرا بشراء جهاز سخان كهربائى , وظلت أسابيع طويلة ترسل للمسئولين فى شركة الغاز ليأتوا ويقوموا بتركيبه ولكن دون مجيب ، و لكن اثناء سفرى جاء عاملان ليقوما بتركيب السخان فى الحمام الخاص بالمنزل. وجاء بعدهما بفترة قصيرة رجلا من المفترض أنه المشرف عليهما, ودخل إلى الحمام ومعه سيجارة مشتعلة ، وبمجرد أن دخل إلى الحمام اشتعلت النيران فى الوعاء الذى يحتوى على احدى المواد المشتعلة (التنر) , وهى المادة المستخدمة في عملهم. ولا يغفل الاب أن يقول أن نفس هذه المادة هى التى استخدمها العدو الإسرائيلى ووضعها فى المواسير اثناء حرب 73 استعدادا لاطلاقه على قوات الجيش المصرى فيى حالة دخوله إلى سيناء. وسكت الأب قليلا كمن يتذكر تجارب مؤلمة يتمنى ضياعها من ذاكرته او ضياع ذاكرته بالكامل بها , ثم يستكمل الحديث عن الوعاء الذى اشتعل بسبب سيجارة عامل شركة الغاز, وتحول الوعاء إلى كرة من اللهب مشتعلة متحركة، ولأن المشرف غير مدرب على إدارة الأزمات وغير مؤهل بالمرة لوظيفته وما تتضمنه من أخطار يمكن أن تؤذيه وتؤذى من حوله ، جرى المشرف بالوعاء خارجا من الحمام متجها للشرفة. جحيم كرة اللهب وتكمل الجدة القصة وتقول أن المشرف خرج من الحمام مسرعا حاملا هذا الوعاء المشتعل , واتجه إلى الشرفة فلم يستطع إلقاء الجردل منها لوجود ستارة عليها , والتى سرعان ما اشتبكت بها النار ايضا ، فظل يجرى فى الشقة مهرولا وتتساقط معه قطع اللهب لتلتهم أرضية المنزل وسط صراخى. و أسرع العامل وخرج من باب الشقة و قام بدفع جردل اللهب بكل قوته على حفيدتى ميسون برغم أنه رأى الطفلتين تلعبان خارج الشقة ، وحاولت إبعاد الفتاتين من طريق اللهب واستطعت إبعاد إيمان الكبرى وسط صراخها وصراخى ولم استطع إنقاذ ميسون. تفحم الجثة جذب صوت الصراخ اهل المنطقة وكان اولهم البواب الذى سمع اصوات الصراخ , ووجد شيئا صغيرا مشتعلا أمامه فتخيل أنه جزء من قماش او قطعة اثاث صغيرة , ولم يتوقع أن ما يشتعل هو ابنتى ميسون. وحاول البواب أن يساعد ميسون فى إطفاء النيران التى أمسكت بها , وأتى ابنه بوعاء مياه وبمساعدة الجيران انطفأت النيران عن جسدها الهزيل الذى كان فى حالة تفحم شبه كاملة. ذهب الجيران بالطفلة إلى مستشفى بورفؤاد العام , ولكنهم وجدوا نسبة الحروق 95% فأرسلوها إلى مستشفى بورسعيد العام ، حيث جاء مدير مستشفى بورسعيد العام ليكمل القصة بالإهانة والتعنت ويصرخ فى وجوهنا قائلا ( انتوا جايبنها ميتة أساسا ، و اللي يموت يموت واللى يعيش يعيش ) ولم يراع ما نحن فيه ، ولم يراع ما نراه فى أقدام طفلتنا ورقبتها وجزء من يديها فى حالة تفحم تام ولونه الأسود ، وكل جسدها مشوه إلا جزء بسيط من شعرها. هروب الجانى وإخفاء الأدلة و استغل عمال الغاز انشغال الجميع بالطفلة التى احترقت نتيجة اهمالهم وقلة خبرتهم , و صعدوا إلى الشقة و أخذوا كل أدوات الجريمة كالوعاء المتفحم و المواد المشتعلة وهربوا. ويضيف الأب أن المشرف القاتل الآن موجود بالمستشفى لانه يعانى من بعض الحروق , ولكنه غير متحفظ عليه , بينما ما زال العاملان طلقاء احرارا لم يتم التحفظ عليهما او سؤالهما حول الحادث , وأنا أتهم بالقتل العمد كلا من العمال و ايضا شركة الغاز التى تعين من ليس لديهم أى خبرة وغير مؤهلين لهذه المهنة , وبالتأكيد لم يمر أى منهم بأي تدريبات أو اختبارات لضمان علمه بخفايا المهنة وخطورتها. كما أتهم المهندس المشرف عليهم وأوجه اتهامى ايضا لوزير البترول بصفته السبب الاول فى وصول الاهمال لهذا المستوى الخطير الذي يضر بأمن وسلامة المواطنين. واشار الاب بين دموع القلب والعين أن هذه الشركات تعين العمال بالمحسوبية والوساطة دون توفر أى كفاءة و لا تعمل على تأهيل العاملين بها لهذه المهنة الخطرة , و بالتالي تكون النتيجة ازهاق الأرواح دون مبرر. وقال الأب أنا أطالب بالبحث فى مستندات هذه الشركة وملفات العاملين بها والدورات التدريبية التى تلقوها , لأن القضية ليست قضية ميسون وحدها ولكنها قضية انعدام ضمير وانعدام أخلاق وانعدام دين ، فلو كانت دولتنا دولة قائمة على العدل لتمت محاكمة كل المسئولين فى اسرع وقت لتبرد قلوبنا على فقدان أعز ما نملك , و لتم إغلاق الشركة تماما. رشوة بالصمت على دم ميسون مايسة والدة الطفلة ميسون فى حالة من الإعياء الشديد بسبب فقدان ابنتها الصغرى , وزاد مرضها الضعف فى ساعات قليلة بعد علمها بالحادث الأليم , قالت وسط دموع جفت وكثير من الدعاء أن الجناة أرسلوا اليهم شخصا من نفس الشركة ليعرض عليهم مبلغا من المال مقداره ثلاثة آلاف جنيه , وذلك للتنازل عن حق ابنتهما ميسون , او بناء مسجد باسمها أو زرع كلى للأم التى تعانى من الفشل الكلوي، ولكن الأم والاب رفضا وأعلنا أنهما لن يتنازلا عن حق ميسون التى خطفها الموت بأبشع الصور فى لحظات من الدنيا. ابتسامة ميسون وأضافت والدة ميسون: ابنتى كانت مبتسمة حتى اللحظات الأخيرة من حياتها , وكانت تقول الحمد لله , وقالت لى: ماما أنا بحبك أوى وطلبت منى أن أحتضنها , ولكننى خشيت أن أزيدها ألما لأن جسدها كله كان محترقا ماعدا جزء من شعرها , ليتنى احتضنتها للمرة الأخيرة ابنتى التى خطفها منى ضياع الضمير و الإهمال. سكتت الأم قليلا ثم بكت وقالت : لن نتهاون فى حق ابنتنا , وندعو الله أن يتغمد ابنتنا بالرحمة والمغفرة وتكون لنا ذخرا فى الجنة , ولن تصمت ألسنتنا حتى يتم إغلاق هذه الشركة التى تصدر الموت لسكان المنطقة. شهود عيان قال شاهد عيان من الجيران أنه رأى هاشم ابن البواب يجرى وأمامه شىء مشتعل يلقيه على السلم لا يستطيع امساكه بسبب النيران، توقعت أن هذا الشىء المتفحم قطعة قماش أو سجادة وليس فتاة صغيرة تأكل النيران جسدها بهذا الشكل المروع. واضاف شاهد آخر أنه بعد اطفاء النيران التى أمسكت بالفتاة الصغيرة عن طريق المياه قاموا بمحاولة خلع ملابسها ، ولكن الملابس كانت تخرج بأجزاء من طبقات اللحم من جسدها الصغير. واضاف أن الجميع كانوا يبكون الرجال قبل النساء وكذلك الأطفال , حيث كان المشهد يدمى القلوب و لن يضيع من مخيلتنا طيلة الزمن , خاصة أن الفتاة الصغيرة كانت تردد كلمة واحدة هى الحمد لله , فمن أنطقها كلمة الحمد لله ، و من جعلها تتحمل حروق بهذا الشكل حتى الموت , فسبحان الله بعزته وجلاله أرحم بها من قلوب لم تعرف الرحمة , بل هربوا وتركوها تصارع الموت بسبب فعلتهم الشنعاء.