نعيش أيام ذكري الهجرة ونحن نتأمل أحداثها وخطط نجاحها وما سبقها من اضطهاد أهل مكة للمسلمين ولرسولهم صلي الله عليه وسلم. ومن الصعب علي الإنسان أن يترك دياره ويهاجر منها ويلجأ إلي بلد آخر يلتمس فيه العون والتأييد. ولكن هذه الصعوبة تحولت إلي سهولة ويسر بحسن استقبال أهل المسلمين عندما هاجروا إليهم. ولم يهاجر رسول الله صلي الله عليه وسلم في أول الأمر وإنما بقي في مكة ينظم حركة الهجرة ويشجع عليها مؤمناً بأنه سيهاجر إليهم آخر الأمر. ولما استأذنه أبوبكر الصديق في الهجرة قال له النبي صلي الله عليه وسلم أصبر لعل الله يجعل لك صاحباً وسعد أبوبكر بهذه البشري ولكن سعادته لم تجعله ينسي أنه درع لرسول الله فكان يمشي أمامه ساعة. ويمشي خلفه أخري ويحازيه عن يمينه ثالثة. ويحازيه عن شماله رابعة. فيسأله رسول الله صلي الله عليه وسلم عن سر تحوله هذا وتتابعه فيقول أبوبكر للنبي: أذكر الرصد فأمشي أمامك. وأذكر المتابعة فأمشي خلفك. وأذكر حقد المشركين فأمشي عن يمينك تارة وعن يسارك أخري. ولما أختبأ رسول الله وأبوبكر في الغار جعل أبوبكر يقطع ثوباً من ثوبيه ويسد بقطعه خروقاً في الغار خوفاً من أن تنفذ منها حشرة فتصيب رسول الله صلي الله عليه وسلم حدث ذلك والرسول نائم في الغار فلما استيقظ سأل أبابكر عن ثوبه الذي اختفي عن جسده وبقي يستتر بثوب واحد فأخبره أبوبكر بما فعل فدعا النبي لأبي بكر وقال: "اللهم اجعل أبابكر معي في درجاتي في الجنة". وظفر أبوبكر بهذه الميزة المخصصة لرسول الله صلي الله عليه وسلم وهو لم يظفر بها اعتباطاً ولا صدفة. وإنما ظفر بها عن عمل وجهد وحماية لرسول الله ويقيناً بأن هذا الرسول هو المنقذ للبشرية بهذه الرسالة التي ابتعثه الله لها ليخرج الناس من الظلمات إلي النور. لقد كانت الهجرة فارقاً بين الحق والباطل كما وصفها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وجعلها مبدأ لتاريخ الإسلام. فهو لم يجعل مولد النبي صلي الله عليه وسلم مبدأ لهذا التاريخ. ولم يجعل مبعثه مبدأ لهذا التاريخ ولم يجعل حدثاً عظيماً غير الهجرة مبدأ لهذا التاريخ. وإنما جعل الهجرة هي المبدأ يقيناً منه بأن الهجرة لن تكون من الضعف إلي القوة. وإنما تكون ملجأ من اليقين إلي يقين مثله. والله تعالي يحمي يقين المؤمنين ويؤيدهم بنصره. وهم منتصرون بهذا التأييد لا محالة إعمالاً لقول الله تعالي: "ان ينصركم الله فلا غالب لكم". وهكذا كانت الهجرة ليست فراراً من ظلم أهل مكة ولا هروباً من اضطهاد يعانون منه. وإنما كانت ملاذاً بيقين من يقين. ففازوا بنصر الله مصداقاً لقوله تعالي: "وما النصر إلا من عند الله".