لا يوجد كاتب عربي في العصر الحديث ملأ الدنيا وشغل الناس بإبداعه وريادته للرواية العربية بمفهومها الفني. ومواقفه الاجتماعية والسياسية والفكرية. مثلما فعل نجيب محفوظ. قطب الرواية العربية. ومؤخرا وجهت الناقدة سيزا قاسم سهام النقد لمحفوظ واتهمته ب "الجبن" في مواجهة السلطة علي مدار العصور. مؤثرا السلامة رغم أن الرجل كاد يدفع حياته ثمنا لمواجهته مع التيارات المتشددة!! الناقد د.حسين حمودة الاستاذ بكلية الآداب بجامعة القاهرة. دحض هذا الاتهام الذي وجه لنجيب محفوظ. قائلًا: أتصور أن اتهام نجيب محفوظ بالجبن ينبع من مصادر بعيدة عن قراءة أعماله. وبعيدة عن مراجعة مواقفه. وبعيدة في النهاية عن أي درجة من درجات النزاهة. نجيب محفوظ في كتاباته. خصوصًا أولاد حارتنا. وميرامار. والشحاذ. وثرثرة فوق النيل. كان الكاتب الأكثر جرأة في تحدي سلطات ومواضعات لا تعرف التسامح. ونجيب محفوظ في مواقفه ظل مؤمنًا بما آمن به: التعدد والتسامح والإيمان بالوطن وبالإنسان وبالعدل وبالحرية. وقد عبر عن تصوراته هذه في كل سلوك قام به وفي كل حديث من الأحاديث التي أجريت معه. ونجيب محفوظ في موقفه من السلطات الحاكمة - علي تغير أسماء القائمين عليها- لم يكن مداهنًا أو متملقًا دافع محفوظ طوال حياته عن قيم تستحق الدفاع عنها". وقد أشار نجيب محفوظ نفسه إلي هذه القيم في أكثر من حديث أدلي به للصحف في فترات زمنية مختلفة. خلال فترة الستينيات وما بعدها. في ظل النظم الحاكمة في تلك الفترات. فيقول: " المغزي الاساسي لأولاد لرواية أولاد حارتنا هم أنها حلم كبير بالعدالة وبحث دائم عنها. ومحاولة للإجابة عن سؤال جوهري: هل القوة هي السلاح لتحقيق العدالة أم الحب أم العلم؟ والذي دفعني لكتابة هذه الرواية. وهي أول رواية أكتبها بعد قيام ثورة يوليو. هو تلك الأخبار المتناثرة والتي ظهرت في تلك الفترة- حوالي العام 1958- عن الطبقة الجديدة التي حصلت علي امتيازات كبيرة بعد الثورة. وتضخمت قوتها. حتي بدأ المجتمع الإقطاعي الذي كان سائدًا في فترة الملكية يعود مرة اخري. مما ولد في نفسي خيبة امل قوية. وجعل فكرة العدالة تلح علي ذهني بشكل مكثف "الحديث ضمن كتاب رجاء النقاش: نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة علي أدبه وحياته". ويشير د.حسين حمودة إلي مشكلة في غاية الأهمية. وهي المتعلقة بإساءة قراءة أعمال نجيب محفوظ. أو تفسيرها وتأويلها علي غير ما يقصد الكاتب. قائلًا: " هناك مشكلة في إساءة قراءة أعمال نجيب محفوظ. وهناك مشكلة في عدم التمييز بين شجاعته في الكتابة من ناحية وأدبه الجمّ. وأحيانَا مجاملاته في أحاديثه التي أدلي بها. وهو كان يردد كثيرًا عبارة أنه مسئول عما يكتب. وليس مسئولًا عن تأويل أو تفسير ما كتب. وكان يشير بهذا المعني إلي الأفلام السينمائية التي قدمت قراءات متباينة لأعماله وابتعدت أو اقتربت من هذه الأعمال. وبالتالي عندما يقول أحد ما بهذه التهمة: " إن نجيب محفوظ جبان" فهو لا يستند إلي ما يجب الاستناد إليه. الكاتب هو أعماله. وأعماله هي ما يجب الانطلاق منها في أي حكم عليه". ومن ثم فإن الحكم علي الكاتب هنا وفي المقام الأول يكون من خلال أعماله. والتزام الموضوعية في تفسيرها وتأويلها. بعيدًا عن الأهواء الشخصية والاغراض الذاتية. وقد عاني نجيب محفوظ من تلك المشكلة في تفسير كثير من أعماله. ومنها رواية أولاد حارتنا. وكذلك رواية الكرنك التي أثارت السلطات وقت نشرها وعند تحولها إلي فيلم سينمائي. يقول محفوظ في حديث بكتاب رجاء النقاش سالف الذكر: " تعرضت الرواية لحذف كثير من أجزائها. وشطب مقص الرقيب كثيرًا من أجزائها قبل أن تخرج إلي النور. ومع ذلك كانت الرواية سببًا مباشرًا لانقلاب كل اليساريين ضدي لأنهم اعتبروها هجومًا علي عبدالناصر..وأغرب أزمة أثارتها الرواية ولم أكن أحسبها. هي غضب صلاح نصر منها علي أساس أنني أقصده بشخصه الضابط الكبير الذي أشرف علي تعذيب ابطال الرواية. وعندما تحولت الكرنك إلي فيلم سينمائي كتب له السيناريو ممدوح الليثي ولعب دور الضابط فيه الفنان كمال الشناوي. فوجئت بصلاح نصر يرفع دعوي قضائية ضدنا بتهمة التشهير به.. لم أتوقع أن يثير صلاح نصر هذه الأزمة لأنه لم يخطر علي بالي وأنا أكتب الرواية. ولم أقصده بتلك الشخصية". ويورد إبراهيم عبد العزيز في كتابه " أنا نجيب محفوظ.. سيرة حياة كاملة" حديثًا لمحفوظ عن رواية "ثرثرة فوق النيل" وكيفية تلقي السلطة. ممثلة في الرئيس عبد الناصر. لها وانزعاجها مما تتضمنه من اداث وشخصيات. فيقول:" تحدثت عن عزلة الشعب عن نظام الحكم. وان الحكومة تقوم بكل شيء وكأن الشعب لا وجود له. والحقيقة أن الكلام كان يأتي علي لسان حشاشين. ولكن الحيلة لم تنطل علي البعض فذهبوا إلي جمال عبد الناصر وحاولوا إثارته. علمت أن عبد الحكيم عامر قال عني: لقد تجاوز الحد. ويجب تأديبه.. أخبرني أحد معارف د.حسن صبري الخولي. صديق مشترك من شلة العباسية ان قرارًا قد صدر باعتقالي وأن تدخلًا جري عند عبدالناصر شخصيًا وتدخل عبد الناصر ليوقف الإجراء كانت وجهة نظر ثروت عكاشة أنه لا يليق البطش بروائي بسبب رواية ومن قبل منْ؟ من قبل عبد الناصر؟ وما ذكرناه ليس إلا مجرد أمثلة قليلة مما تعرض له نجيب محفوظ. وعلاقة السلطة بكتاباته ورد فعلها إزاءها وإزاءه. مما يؤكد أن اتهامه بالجبن ينم عن تغافل وتجاهل لتاريخ الرجل وإساءة قراءة لأعماله المترامية علي امتداد تاريخه الكتابي. ويبدو أن منْ يطلقون مثل هذه التهم يجمعهم خيط واحد هو محاولة الإساءة للرجل الذي تعرض لمثل هذا الكلام قبل ذلك. فقبل سنوات بعيدة -يقول حسين حمودة- ترددت عبارة "إن نجيب محفوظ أشجع كاتب وأجبن إنسان". وعلي سوء هذه العبارة القديمة فما يردده بعضهم الآن أكثر سوءًا. ويقول حمودة: أتصور أن اعمال نجيب محفوظ سوف تبقي في الأدب العربي جزءا أساسيًا من شرف الكتابة ونزاهتها وجرأتها امام الاحكام العابرة عنه. وليس عن أعماله". القاص شريف صالح عقب علي انتقاد الناقدة سيزا قاسم لنجيب محفوظ قائلا: اولا محفوظ كان كتب الثلاثية قبل الثورة وتأخر نشرها لنهاية الخمسينيات وكان عنده شعور أنه قال كل إللي عنده وكتب كل إللي جواه عن القاهرة. وكان بحاجة للوقت للبحث عن رؤي وتكنيكات جديدة وعشان كدا روايته إللي بعد الثلاثية كانت بعيدة جدا عن أسلوبه واجوائه المعتادة وهي "اولاد حارتنا" أضاف: في هذه المرحلة كان نجيب مرتبطا بصلاح أبو سيف الذي علمه كتابة السيناريو ومحفوظ اعتبرها فرصة لتأمين نفسه ماديا.. وبمجرد تحقيق هذا الهدف توقف نهائيا عن كتابة السيناريو ورجع لكتابة الرواية. تابع قائلا: من الناحية السياسية محفوظ وفدي روحيا وثورته اللي خلدها ثورة 19 وعلي المستوي الفكري أقرب للاشتراكية العلمية و كان يروج لها استاذه سلامة موسي وعندما قامت ثورة يوليو ضد النظام القديم ومنه حكومة الوفد فمن الطبيعي أن يكون حذرا تجاهها وينتظر مدي مصداقية شعاراتها "اللي ماحدش يختلف معاها". وقال: عندما شعر محفوظ ان الواقع الذي أفرزته ثورة يوليو بعيدا عن شعاراتها بدأ فعلا رصده من أول روايته "اللص والكلاب" سنة 1960 والتي صدرت في عز مجد عبد الناصر. ولهذا لا يليق وصم محفوظ بالجبن.. لأنه بالفعل تعرض لأكثر من صدام مع نظام عبد الناصر لولا حماية هيكل له. واختتم تفنيده قائلا: محفوظ من أشجع الكتاب في استقلاليته والتزامه بقيمه ولم يتورط في شلل وعطايا وتقلبات اليسار والاسلاميين والحكوميين لكل العصور وهو عندي أنزه واشجع من كتاب كثيرين ثاروا بصخب وتمردوا وسجنوا وفي الآخر ناموا في الفراش مع أعداء الأمس.