حين اعترفت ذات مرة لإحدي صديقاتي بالجامعة أن نجيب محفوظ كان له الأثر الأكبر في دفعي إلي عالم الشعر ضحكت ورمقتني بنظرة تملؤها الاندهاش وظنتني أقول نكتة. كان محفوظ بالفعل من أوائل الكتّاب الذين قرأتهم مبكرا جدًا فغيّروا رؤيتي لمفاهيم الكتابة، وبسببه تعلمت لغة الشعرالذي عليك أن تدرب حواسك كلها كي تصل إليه. لكن قراءة روايات محفوظ كما تجلب المتعة لمن يقرؤها فإنها تجلب عليه الشقاء والقلق أيضًا وتسلبه رضاه بأفكاره وتجعله في حالة مساءلة دائمة لوعيه وقناعاته، شأنها في ذلك شأن كل الكتابات العظيمة ذات البعد الإنساني العميق التي غيّرت مجري تاريخ الأدب. كنت- ولا زلتُ- أنظر إلي نجيب محفوظ كذلك باعتباره مثالا حيًّا للكاتب المثقف و الليبرالي المنحاز في كتابته دومًا لقيم التسامح والتنوير والعدل الاجتماعي، والرافض لكل أشكال الظلم والاستبداد في العالم. لكن هذه المحبة لمحفوظ لم تقف حائلا أبدا أمامي كي أراه في عدد من رواياته كاتبا محافظا خصوصًا فيما يتعلق باللغة، وإن كان محفوظ قد اجتهد علي مدي رحلته الإبداعية الطويلة في أن يطور لغته ويحررها من أسر البلاغة الكلاسيكية الغارقة فيها- والتي كان نموذجها الأعلي القرآن الكريم- حتي صارت لغتة أكثر حداثة لتتناسب مع ولعه بالتجريب في الفن الروائي آنذاك. وعلي الجانب الآخر، أعترف أنه قد ساورتني الحيرة كثيرا تجاه بعض مواقف محفوظ السياسية وأثارت لدي قدرا من الالتباس والتساؤل خصوصا في علاقته بنظام يوليو .فالرجل الذي قدَّم في رواياته أعنف وأقسي نقد يمكن أن يقال لسلطة كان يبدو من خلال حواراته وآرائه رجلا لطيفا ومجاملا يتحاشي الصدام مع النظام وكانت مواقفه المعلنة مؤيدة لكل قرارات عبد الناصرالتي اتخذها في فترة حكمه . كنت كثيرا ما أقول لنفسي إنه كاتب وليس سياسيًّا ومعركته الحقيقية مع الورق فقط، مع فعل الكتابة نفسه.ولعله رأي أنه من الأفضل أن ينأي بنفسه عن الصدامات السياسية المباشرة حتي لا يبدد طاقته في معارك لا طائل منها فيٌزج به في سجون عبد الناصر. لكن حينما قرأت كتاب الناقد الراحل رجاء النقاش (نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة علي حياته وأدبه) ، الذي نشرته مؤسسة الأهرام عام (1998) اكتشفت أن محفوظ -وهو الذي لم يتعرض مرة واحدة للاعتقال في عهدي عبد الناصر والسادات- رغم انتقاده العنيف لنظامهما في أعماله الإبداعية - لم يكن بعيدا عن بطش السلطة ومتاعبها ولم يسلم من مضايقاتها ومخاطرها ، و"لم يكن نائما في العسل" علي حد تعبير محفوظ نفسه في حواره مع رجاء النقاش. من هذه المتاعب مثلا، عندما نشر محفوظ قصة قصيرة في الأهرام في الستينيات بعنوان"سائق القطار" وتدور القصية حول سائق يفقد صوابه ويتسبب في حادث مروع .وبعد النشر سري همس بين المثقفين -آنذاك- أن المقصود بالسائق في القصة هو عبد الناصر وأنه سوف يقود مصر إلي كارثة، وتوقع الكثيرون اعتقال محفوظ والذي لم ينقذه من هذه الورطة سوي الكاتب محمد فريد أبو حديد الذي كان يرأس مجلة (الثقافة) في ذلك الوقت ، ولم تكن تربطه بمحفوظ أية علاقة شخصية وقتئذ ؛ حيث كتب في افتتاحية المجلة عن قصة "سائق القطار" ذاهبا إلي أن الكاتب يقصد الصراع بين الشرق والغرب ،وتحديدا الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفيتي وهو الصراع الذي سيتسبب في تدمير الكرة الأرضية كلها في النهاية .وكان هذا التفسير للقصة كفيلا بإنهاء حالة التوترالتي كان يعانيها محفوظ بعد نشر قصته في الأهرام. و بسبب رواية"ثرثرة فوق النيل" أيضا كاد محفوظ أن يُعتقل؛ فعندما قرأها المشير عبد الحكيم عامرهدد وتوعد بإنزال العقاب بمحفوظ بسبب النقد العنيف الذي تضمنته الرواية حتي إن البعض سمعه يقول:"نجيب زودها قوي ويجب تأديبه" وعندما تخرج هذه العبارة من المشير عامر تحديدا فإنها بالضرورة تحمل دلالات خاصة. وطبقًا لما حكاه ثروت عكاشة- الذي كان وزيرا للثقافه في عهد عبد الناصر - لمحفوظ بعد فوزه بجائزة نوبل ,فإن عبد الناصر طلب منه قراءة رواية "ثرثرة فوق النيل" وإبداء رأيه فيها بعد عودته من رحلة إيطاليا التي كان يستعد عكاشة لها آنذاك. ولعل من حسن حظ نجيب محفوظ أن ثروت عكاشة كان مثقفا مستنيرا؛ فقد دافع عن رواية "ثرثرة فوق النيل" أمام عبد الناصر وفندَ اتهامات المهاجمين لها وأقنعه أن من الضروري أن يتوافر للأدب قدر من الحرية لينقل صورة واقعية حقيقية عن المجتمع،وأن حرية الأدب هي أفضل دعاية للنظام في الخارج. وبعدها تدخل عبد الناصر فتراجع المشير عامر عن تهديده بعقاب محفوظ. أما رواية "أولاد حارتنا" التي جرت علي محفوظ المتاعب والمعاناة كلها ،سواء أثناء نشرها في الأهرام أو عندما حدثت الأزمة مع مؤسسة الأزهر، فإنه طبقًا لرواية محفوظ نفسه لرجاء النقاش ،فإن المخابرات المصرية- آنذاك-كان لديها اعتقاد بأن رواية "أولاد حارتنا" موجهة ضد نظام عبد الناصر وقرأوها باعتبارها مؤامرة عليه. وهو ما بدا واضحا من استجواب صلاح نصرلمحفوظ في مبني المخابرات في ذلك الوقت،وإن كان قد أخفي شخصيته عنه حين قابله في مكتب طلعت خيري (نائب رئيس المخابرات) حيث سأله صراحة في نهاية كلامه معه حول ما إذا كانت الرواية تحمل تجاوزات دينية بالفعل. وهوالأمر الذي جعل البعض وقتها يظن أن الأزمة التي أثارها الأزهر كانت بتدبير المخابرات نفسها التي أرادت أن تستفز مؤسسة دينية كبري بهدف النيل من محفوظ. هذه المتاعب التي صادفها محفوظ في علاقته بالسلطة وهي أكثر من أن أسردها جميعا هنا، جعلتني أدرك أن الجماعات الإسلامية التي كفرّت محفوظ و حاولت اغتياله حيا وميتّا لم تكن لتنجح أبدًا لولا أنها وجدت من يمهد لها الطريق.