هل سبقت آمال فهمي زمنها.. أم سرقها الزمن في لحظات كربها العمري فأفقدها ميزة الاقدام وشجاعة الاقتحام وجمال وتأثير العطاء؟ آمال فهمي التي رحلت عنا أخيرا قصة مهمة في نسيج حياتنا العامة كمصريين. ونسيج حياتنا الخاصة كجزء من مجتمع له دائما شكواه وغضبه من منغصات عديدة.. تطول غالبا الفقراء والضعفاء.. وأيضا.. فقد كانت "آمال فهمي" جزءاً ممن أعطوا لحياتنا قدر من البهجة والصفاء الروحي والإنساني.. كل هذا صنعته هذه السيدة عبر صوتها الخلاب.. المؤثر والقادر علي جذب انتباه المستمع في زمن كانت الاذاعة فيه هي سيدة الاعلام.. وتاجه.. وقبل أن تولد "الصورة" وتتسلل إلينا بكل ما تطرحه من تفاصيل وملامح مرئية لا التباس فيها ولا غموض فينسحب اعتمادنا تدريجيا علي "الصوت" وسحره وحدوده اللانهائية في تضخيم او تفعيل أية نبرة أو حتي "همسة".. إلي الاعتماد علي الحدود التي تقدمها الصورة لنا. واستبعاد "الخيال" و"الحلم" و"الامل" من تفاصيل الصورة.. وليستولي الإعلام الجديد. المرئي. علي الناس ويحولهم من مستمعين إلي مشاهدين. ويحول بيوتهم من أماكن للحوار الممتع مع النفس ومع الآخر "أي الإذاعة والإذاعيين" إلي أماكن للصمت. يجلس فيها الجميع أمام الشاشة بلا حقوق الصورة.. ويترحمون بعدها علي غالبية من يقدمون البرامج التي لا يرون فيها أنفسهم.. هل قتلت "التكنولوجيا" جيل آمال فهمي ومن بعده من الاذاعيين وجعلت ولاء الناس يذهب ناحية التليفزيون والعاملين به فقط.. أم أنه التطور الطبيعي لمفردات الحياة والذي يأتي كموجات مرتبطة بالعلم والتقدم. وسيطرة المادة علي ما عداها من مفردات.. وهي سيطرة حاسمة لأنها تنتقل عبر العالم كله مخترقة كل الحدود والثقافات مهما انتبه لها البعض أو أعلن اعتزازه بماضيه وتراثه الثقافي والحضاري.. رسائل من الشارع * هل جاءت "آمال فهمي" من فراغ؟ وهل كان ابداعها الاذاعي أمراً استثنائياً؟ أم أنها ابنة لعائلة عريقة ذات حسب ونسب وتاريخ وفن؟.. لقد بدأت الإذاعة المصرية القومية مسيرتها في مايو عام 1934 بعد سنوات من عراك الاذاعات الأهلية "الخاصة" أي أننا بعد اسبوعين سوف نحتفل بالعيد الرابع والثمانين لهذه الاذاعة. ومعه نتذكر اسماء لا ترحل من ذاكرتنا برغم رحيلها الطويل. مثل "بابا شارو" أمير برامج الاطفال. الاذاعي القدير محمد محمود شعبان الذي لم يتخطاه احد حتي اليوم في مخاطبة الأطفال المصريين مثل "صفية المهندس" أشهر مقدمة لبرامج المرأة وأول صوت نسائي في الإعلام المصري العام وأول رئيسة للإذاعة ولجهاز إعلامي مصري وصاحبة الجملة الشهيرة "إلي ربات البيوت". ومثل اسماء أخري كبيرة كفاروق شوشة وجلال معوض وسميرة الكيلاني وفضيلة توفيق. أطال الله عمرها. وآمال فهمي وغيرهن وغيرهم كثيرون.. في هذا "الجو" الفخيم ثقافيا ومعرفيا. ولدت آمال فهمي المذيعة بعد تخرجها في قسم اللغة العربية بكلية الآداب. وبدأت العمل من خلال الانتباه للكوكبة التي التحقت بها. والجهاز الذي اتاح للجميع فرصة التواجد علي الهواء. والتواصل مع ملايين المستمعين. لكنها أي آمال فهمي. لم تجد نفسها في برامج الاستديو. وإنما الشارع. ومن خلال اللقاء المباشر بالناس العاديين. علي الناصية. هكذا جاء الاسم باعتبار "الناصية" ملمح مهم من ملامح ذلك الزمن الجميل الذي كانت الشوارع فيه هادئة. واللقاء فيها ممكنا بدون منغصات. ومن الناصية. وعلي الطبيعة. عرفت "آمال فهمي" الكثير عن أحوال الناس في مصر. مشاكلهم ومتاعبهم وأمراضهم وآمالهم. وكانت جسرا يصلهم بالمسئولين والقادرين علي حل هذه المشاكل بأسلوبها الناعم. والحاسم. وقدرتها علي استيعاب القضية وإرسالها إلي الجهة الملائمة في ثوان علي الهواء. وبدون البحث عن تليفون المسئول كما يحدث الآن في البرامج التليفزيونية حين يحتاج الأمر إلي مداخلة لحل مشكلة مواطن.. كان "علي الناصية" أيضا نافذة مثالية لأصحاب المواهب والمبدعين الجدد وليس أصحاب المشاكل فقط.. كانت مصداقيته الكبيرة جزءاً من تأثيره. وتأثيره تعبير عن الثقة فيه وفي مقدمته ذات الصوت الناعم والمريح.. والقوي.. وهو ما جعله أيضا موقعاً مهماً للقاء شخصيات مهمة وشهيرة في الحياة المصرية والعربية وحتي من الشخصيات الدولية التي زارت مصر.. وفي كل حلقة كان صوت "آمال فهمي" هو المدخل إلي الموضوع أو القضية مثله مثل الريموت كونترول أو الباس وورد والآن. فقد استطاعت هذه الإعلامية الموهوبة أن تضع بصمتها علي البرنامج وتلك المساحة الهوائية الممميزة له يوم الجمعة. وساهم في هذه المقدمة الموسيقية البديعة الخاصة بالبرنامج والتي لا أذكر صاحبها للأسف الشديد.. لقد بدأت آمال فهمي عملها بالإذاعة في بداية الخمسينيات واستمرت تقدم برنامجها نحو خمسة عقود وتوقفت عن تقديمه منذ عقد ونصف ولكننا نتذكره.. كما نتذكر جيدا برامج أخري عديدة للاذاعة وكما نتذكر أيضا برامج عديدة في التليفزيون المصري الأول. أي بداياته عبر قناة "ماسبيرو زمان" وهو ما يدعونا إلي مطالبة الإذاعة المصرية بتخصيص موجة خاصة بالبرامج الاذاعية التي قدمها مبدعو الاذاعة ومبدعاتها. ومنهم آمال فهمي.. فهذا ليس كثيراً علي الاذاعة.. ولا علي المستمعين الذين يحتاجون إلي استعادة برامج مهمة وثقافة ضرورية قدمها لهم الإعلام المصري ذات زمن قريب عبر الاذاعة المصرية بكل ألوانها. من البرنامج العام للثقافي لصوت العرب والشرق الأوسط والبرنامج الثقافي واذاعة الأغاني وغيرها من الاذاعات.. لقد جاء رحيل الاعلامية المبدعة "آمال فهمي" ليذكرنا بأننا عشنا زمنا كان فيه الإعلام المسموع ضمن ما نتباهي به لثقافة العاملين به واجتهادهم وحفاظهم علي لغتنا العربية الجميلة بينما تتوالي الانتقادات من المشاهدين قبل المسئولين الآن للعاملين في الإعلام المرئي والمسموع وتغاضي الكثيرين منهم عن كل تراث العمل الإعلامي المصري الذي بدأته الاذاعة.. وما أحوجنا الآن لاستعادة كل ملامح الجودة والتفوق في هذا الزمن الجديد.