أشكر الزميل الذي اختار كلمتي: "حول العالم". عنوانًا ثابتًا لهذه الكلمة.. فقد منحني هذا العنوان آفاقًا واسعة للتحرك فيها.. عند اختيار موضوع هذه الكلمة الأسبوعية.. وإن كنت أعتز بهذا العنوان أيضًا لسبب آخر.. ذلك أنه كان اسمًا لبرنامج يومي لي ظللت أكتبه يوميًا لنحو عشرين عاماً للتليفزيون المصري.. ولذلك فالاسم عزيز عليَّ.. كما اني أرجو أن أجد من خلاله فرصًا أوسع لكتابات متنوعة.. في مجالات متنوعة أيضًا.. ومادمنا نتحدث "حول العالم".. فأستأذن القارئ الكريم أن أصحبه إلي قرية في بلد صديق.. زاره الرئيس عبدالفتاح السيسي منذ أسابيع.. وهو المجر.. وأنا أختار قرية اشتهرت بالتصنيع الزراعي.. لكي أتحدث من خلالها عن القرية المنتجة في مصر.. والتي يمكن أن تكون مدخلاً لزيادة الانتاج من ناحية وحل مشكلة البطالة من ناحية أخري.. وتنمية الريف من ناحية ثالثة.. القرية التي أتحدث عنها تقع في إحدي ضواحي العاصمة المجرية بودابست.. وهي قرية تخصصت في زراعة الفلفل الأحمر "البابريكا" المستخدم في صناعة "الشطة".. وقد تخطت شهرة هذه القرية محيطها.. وبلدها.. وأصبحت منتجاتها منتشرة في كل أنحاء أوروبا.. وتزرع القرية نحو 80 فدانًا بهذا الفلفل الأحمر.. وتتفرغ نساء القرية لتجفيفه.. بعد أن يضعنه في حبال يتم تعليقها علي الجدران أو نشرها علي الحبال حتي تجف تمامًا.. ثم يتم نقلها إلي مصنع صغير في نفس القرية يقوم بطحنها وتعبئتها وصنع عشرات إن لم يكن مئات من الأشكال التي يعبأ فيها ها المنتج الذي قد يكون مثل مسحوق ناعم أو خشن أو معجون متماسك أو سائل.. إلي آخر ما يمكن انتاجه من أشكال هذه الشطة.. وهذه المنتجات أيضًا تعبأ في أشكال وأحجام لا حد لها من علب معدنية إلي علب من الخزف أو علب كأنابيب معجون الأسنان.. أو علب تأخذ شكل الهدايا التي يشتريها السياح علي شكل أحد قرون هذا الفلفل.. ويتفنن الصانعون هناك من أبناء القرية في أشكال علب هدايا الفلفل.. التي يقبل علي اقتنائها السياح.. ولا تخلو هذه القرية من أفواج هؤلاء السياح.. الذين يزورون مزارع الفلفل أولاً.. ويلتقون بالفلاحين والفلاحات العاملين بها.. ويزورون أماكن التجفيف.. ثم يتوجهون إلي المصنع في نفس القرية يزورونه.. ثم يخرجون من المصنع إلي حيث تباع تذكارات هذا المنتج وهداياه التي أصبحت شهيرة باسم هذه القرية في كل أوروبا.. ولا تكتفي القرية بهذا المنتج.. وإنما تضم أيضًا مصنعًا صغيرًا.. يستغل خامات التربة في هذه القرية لصناعة منتجات من الخزف بأشكال تغري السياح أيضًا بشرائها.. مثل هذه القرية تتكرر كثيرًا في المجر.. الصناعات عديدة.. وبعضها يتخصص في استضافة السياح وتقديم عروض ريفية وسباقات باستخدام حيوانات القرية من جياد وحمير وأبقار.. وعربات ريفية تجرها الخيول وتحمل السياح في جولة بين حقول القرية.. وهذا كله يشير إلي لون من السياحة مفتقدة في مصر.. هو السياحة الريفية.. مع ان لدينا كل مقومات نجاحها خاصة في بعض قري الوجه البحري.. وهذا حديث آخر علي كل حال.. ولكن ما نؤكد عليه اليوم هو القرية المنتجة التي تنتج لنفسها ولغيرها.. وتسهم في حل مشكلة البطالة.. وتزيد الصادرات.. وهي كذلك مدرجة علي خريطة المزارات السياحية للسياح الذين يزورون المجر.. ويستمتعون بزيارة هذه القري وتناول وجبة غداء في "دار العمدة".. أو بيت القرية.. حيث الاستعداد لاستضافة عدة مئات في وقت واحد.. وتقدم لها مع الغداء عروض فلكلورية من أبناء القرية.. هل نحن نحلم عندما نتخيل أن يكون لدينا في مصر شئ من هذا؟ قرية منتجة.. تكفي أبناءها.. وتخلق فرص عمل لهم.. وتزيد من صادرات الوطن.. وتمنح الفرصة للسياح للتعرف علي الحياة فيها وشراء منتجاتها؟.. أبدًا.. نحن لا نحلم.. بل لدينا عشرات القري الصالحة لمشروعات مماثلة.. وآخرها ما قرأته منذ أيام عن مشكلة قرية مصرية تخصصت في صناعة المنتجات الخشبية المطعمة بالصدف.. ولدينا قري أخري تخصصت في صناعة البردي.. ولدينا أيضًا في الفيوم قرية "تونس" التي تخصصت في صناعة الفخار ومنتجاته.. ولدينا في الدلتا قرية تخصصت في زراعة الخرشوف وإعداده للتصدير.. ولدينا قري كثيرة تخصصت في منتجات زراعية عديدة.. وأخري في منتجات صناعية مثل صناعة الحرير في أخميم.. أو صناعة الكليم في فوة.. أو صناعة الفسيخ في نبروه.. إلي آخر قائمة كبيرة من القري المصرية الشهيرة التي تحتاج إلي أن نساندها.. ونضعها علي قائمة المزارات السياحية للسياح الأوروبيين والعرب.. وهذا بطبيعة الحال إلي جانب محاولة إضافة عشرات ومئات القري المصرية سنويًا إلي قائمة القري المنتجة..سواء بالبحث عما اشتهرت به ومحاولة تطويره وابرازه والتعريف به.. أو بمحاولة توطين صناعات أخري تقليدية ومحلية. صناعية وزراعية.. في قري أخري يمكن أن تصبح قري رائدة. كل في محافظتها.. ان القرية المصرية المنتجة.. يمكن أن تكون أقصر طريق إلي تنمية ريفية مستدامة.. يمكن أن تكون فرصة لمزيد من المشروعات الصغيرة والمتوسطة.. يمكن أن توفر فرص العمل الشريف لمئات الألوف من مواطنينا.. يمكن أن تكون فرصة للنهوض بالريف وتحديثه والارتفاع بمستوي الحياة فيه.. يمكن أن تنتعش الحركة السياحية.. وتوفر لونًا من ألوان السياحة هو "السياحة الريفية" الذي تعرفه بلدان عديدة في أنحاء العالم.. ولم نهتم في مصر بعد.. باختصار القرية المنتجة أمل يمكن أن يتفتح في قرانا ويوفر فرصًا لا حدود لها.. لرفع مستوي الحياة وجودتها.. وانتشالها من الفقر والتخلف.. والموضوع في رأيي يستحق أن نعود اليه.. لنقدم نماذج أخري..