1⁄4 لعل السؤال الذي لم يجد إجابته منذ وقعت أحداث 25 يناير وحتي الآن هو: ماذا جري للمصريين. مع الاعتراف بأن ثمة محاولات سابقة علي هذا التاريخ حاولت الإجابة عنه أشهرها ما قام به المفكر الكبير جلال أمين عام 2008 في كتابه المهم الذي كان عنوانه: ¢ماذا حدث للمصريين ¢.. والذي رصد من خلاله تطورات المجتمع وتغير أحوال المصريين خلال خمسين عامًا "1945 1995" بطريقة سهلة عميقة.. ويبدو لي أن ما حدث لنا في السنوات الست الأخيرة أخطر وأعمق كثيرًا مما حدث في نصف قرن. الأمر الذي يظهر حاجتنا الشديدة إلي دراسات اجتماعية تكشف اللثام عن عوامل هذا التغير وأسباب التراجع الخطير في الأخلاق والسلوك وظهور الحدة في الطباع والتعصب للرأي.. لماذا أخرجت ثورة يناير أحسن ما فينا في أيامها الثمانية عشر يومًا الأولي. ثم انقلب ربيعها خريفًا فيما بعد. وأفرزت أسوأ ما فينا. حيث الاستقطاب الشديد. والضيق بالاختلاف.. لماذا تبدل الانفلات الأمني الذي صاحب الأيام الأولي لثورة يناير إلي انفلات عام صار عنوانًا لكل شيء حتي لم يترك شيئًا علي حاله.. حيث انفلتت الضمائر بالغش والاحتكار والفساد والمتاجرة بأقوات الغلابة وإشعال الاحتقان في صدورهم.. نحن في حاجة للإجابة عن سؤال مهم: لماذا غلب الصياح والصخب والتخوين والتراشق بالألفاظ عند كل اختلاف في الرأي أو التوجيه. حتي صار الخلاف أحيانًا علي الوطن لا من أجل هذا الوطن.. لماذا سكنت حياتنا صراعات طفت أحيانًا علي السطح. وغزت الشاشات وصفحات الصحف والمواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي.. وبدا المشهد وكأننا فقدنا القدرة علي قبول الرأي الآخر أو انتهاج الحوار سبيلاً للنقاش والإقناع بالحجم والمنطق والصبر والإعذار. أو كأننا فقدنا البوصلة إلي القلوب والعقول. المدهش أننا نتبادل الشكوي مما حاق بأخلاقنا من تدهور. لا يمكن تجاهله. أو التهوين من خطورته البالغة التي تنزع الإحساس بالطمأنينة علي مستقبل الأجيال القادمة التي أصابها كثير من التشوه بفضل غياب القدوة الحسنة في الأسرة والمدرسة والإعلام وكل مكان تصل إليه أبصارهم وأسماعهم. ما نراه اليوم ليس نتاج مرحلة بعينها بل تراكم السنين. ولسنا وحدنا من نشكو هذا التدهور الأخلاقي. بل سبقنا إلي ذلك مفكرون ومثقفون أحزنهم مثل هذا التغيير السلبي. فصاحب نوبل في الأدب أديبنا العظيم نجيب محفوظ قال كلاماً خطيراً. رأينا أن نعيد التذكير به. فلعله يشخص العلة. ويرسم طريق الشفاء منها.. يقول عميد الرواية العربية: إن أخلاقنا اليوم هي الثمرة المرة لعوامل عديدة. منها الأزمة الاقتصادية. وتوابعها من الغلاء والبطالة. وفتكها بمحدودي الدخل ومن دونهم الفقراء. فكانت مدخل كثيرين إلي الانحراف بأنواعه. والاستهانة بالروابط الحميمة التي كانت فيما مضي شبه مقدسة. كما كانت الدافع وراء العديد من جرائم السرقة والقتل والاغتصاب والمخدرات.. وهناك أيضًا استبداد أرهب الناس بصرامته حتي عشش الخوف في القلوب والمهانة في النفوس. وجعل من النفاق والانتهازية دستورًا للحياة. كما أن الاعتماد المطلق علي أهل الثقة وتفضيلهم علي أهل الخبرة. مما يهدر قيمة العلم والعمل. ويزكي الملق والانحراف والعلاقات الخاصة والفهلوة والاستهتار. وكانت الاستهانة بقدسية القانون. ومخالفته جهاراً. والتراخي في تطبيقه. والإهمال في تنفيذ أحكامه عاملاً مهمًا لما وصلت إليه أخلاقنا. وقد يحتاج العلاج إلي وقت. ولن يجدي فيه الكلام والمواعظ. لابد من التنمية الشاملة التي تشمل الإصلاح السياسي والاقتصادي والتربوي والتعليمي¢. هكذا تكلم نجيب محفوظ. وكأنه يعيش بيننا. يعاني ما نعانيه من آفات لن تختفي إلا إذا أصلحنا أنفسنا. سلوكنا. وطرق تفكيرنا وتعليمنا وثقافتنا.. وانتقلنا من مربع الإحباط والتواكل والسلبية إلي ميدان الأمل والعمل والتحدي فلسنا أقل من اليابان التي دمرتها الأسلحة النووية. لكنها أبت ألا أن تعود عملاقًا يناطح الكبار. كأفضل القوي الاقتصادية العالمية. ولسنا أقل من كوريا الجنوبية ولا سنغافورة ولا البرازيل. التي عاشت تجربة تشبه حالتنا وظروفنا.. لكنها اعتمادًا علي قدرتها الذاتية والعلم والشفافية والجدية تعافت حتي صارت قوي اقتصادية لا يستهان بها.. علينا أن ندرس كيف تولد فيها روح التغيير الإيجابي المنتج الخلاق. ماذا يمنعنا في مصر أن نسلك سبيلاً مشابها لهذه التجارب الدولية الناجحة.. كيف يمكننا إشاعة روح الأمل. وإبطال بواعث الإحباط الذي يحاول البعض إشاعته بين الناس والرأي العام. سواء كان هذا البعض مسئولين بأخطائهم القاتلة. أو إعلاميين يتنافسون لتحقيق مصالحهم هم وليس مصالح مصر.. وللأسف هؤلاء تورط بعضهم في تأييد الأنظمة السابقة. ثم تحولوا إلي تأييد الرئيس السيسي في البداية. ثم انقلبوا عليه. أما بعض المسئولين فلا يزالون يعملون بالأفق القديم. ويمارسون طقوسًا بيروقراطية لا تصلح لهذا الزمان بتحدياته الجسام. فلم تعد الإدارة بردود الأفعال ولا برؤية الدولاب الإداري القديم مما يناسب ما تجابهه الدولة من تحديات. أدناها الظروف الاقتصادية القاسية. وأعلاها الإرهاب ومؤيدوه في الداخل والخارج.. هذا البطء لا يتناسب مع ما يبذله الرئيس وبعض مؤسسات الدولة الفاعلة من جهود لإصلاح الاقتصاد ودحر الإرهاب واجتثاث جذوره. وهناك يلزم السؤال: هل لا يزال الرئيس يعول علي جهود القائمين بتجديد الخطاب الديني والإعلامي بالكيفية التي نراها.. أم أنه حان التغيير في هذه المؤسسات ليأتي من يملك رؤية حقيقية قابلة وقادرة علي إحداث مثل هذا التغيير المنشود..؟! نرجو للمجلس الأعلي للإعلام والهيئتين الوطنيتين للصحافة والإعلام المزمع تشكيلها أن تنهض بعبء إصلاح الخطاب الإعلامي والإسهام الحقيقي في معارك التنمية والإرهاب. وأن تعيد الوجه المشرق للإعلام والصحافة المصرية. كما نأمل أن تنتقل مؤسسات الفكر والثقافة والأزهر والكنيسة إلي تبني خطاب إصلاحي يعمق قيم التسامح وقبول الآخر. ونبذ التعصب والانغلاق والتطرف. فلن يبني جبهة داخلية موحدة إلا فكر مستنير كالذي قدمه يومًا الإمام محمد عبده والأفغاني ورفاعة الطهطاوي. وغيرهم من صناع النهضة الحديثة لمصر. لا ننكر أن الدولة حققت تقدمًا ملحوظًا في حرب الإرهابيين. وشل قدراتهم وتحركاتهم. لكنها لم تحرز نفس التقدم في حربها ضد أفكار الإرهاب وجذوره ومسبباته وبيئته الحاضنة. لم تلتفت المؤسسات المعنية بحرب الفكر الإرهابي إلي أمور بسيطة. يمكنها تشكيل وعي الأجيال الجديدة. خصوصًا في مدارسنا بتعليمهم ما تيسر من القرآن والأحاديث النبوية الداعية لحب العمل والنظافة والتسامح وكراهية الجدل والعنف والتشدد والمغالاة.. ولم تقدم لنا تلك المؤسسات مناظرات فكرية حية تنطلق من دحض التوظيف المغلوط للأسانيد الدينية التي يرتكز إليها الإرهابيون في ارتكابهم جرائم القتل والتصفية الجسدية والتفجير باسم الدين لكن ما نجده للأسف مناقشات تليفزيونية تعمق الانقسام وتشعل الجدل.. ونسي هؤلاء أن ما نحتاجه هو حوار العلماء والمتخصصين المستنيرين في مناقشات بلا جمهور لا يفقه إلا قليلاً مما يقوله هؤلاء العلماء. ولا يستوعب تداول مثل الآراء الفقهية والأفضل أن تخرج توصيات مبسطة عن الأزهر والأوقاف والتعليم والثقافة يتداولها الإعلام. تبصيرًا للناس وإرشادًا للجيل الناشئ حتي لا ينجرف في تيار الإرهاب والتطرف.. أما المناظرات التليفزيونية الصاخبة التي تدار بمنطق المغالبة فهي تؤدي إلي مزيد من الانقسام والتجرؤ علي قيم المجتمع وثوابت الدين.. وقد رأينا سقطة المناظرة التي جرت بين د. سعد الدين الهلالي وإسلام البحيري في برنامج عمرو أديب.. وكيف أثارت من البلبلة والهدم أكثر مما أحدثته من يقين في وجدان المشاهدين.. فهل يمكن التعويل علي مناهج الاستشراق التشكيكية والأطروحات المنقولة في تجديد الفكر الديني لزماننا..؟! هل يكفي ذلك لإقناع الإرهابيين بالتخلي عن إرهابهم. أو يمنع انضمام بعض من الأجيال الجديدة التي يجري التغرير بعقولها واستمالتها إلي صفوف جماعات التكفير والعنف وهدم الأوطان بدعاوي زائفة.. هل يمكن بمثل ما نراه من أعمال فنية هابطة ومناهج تعليمية متهافتة وكتب دون المستوي أن نرقي الوجدان ونغير الثقافة الجامدة المشوهة..؟! إن بناء النهضة وصياغة الوجدان وصيانة الأخلاق وتهذيبها وترقية العقول لن يتم بمثل ما نراه من حلول قاصرة ومسكنات لا تصمد في وجه واقع معقد لا يجدي معه ثقافة الإملاء أو المنع أو المصادرة أو القمع.. وإنما لا بد من إطلاق حرية الفكر والبحث وفق ضوابط لا تجترئ علي الدين. ولا تقلل في الوقت نفسه من أهمية العلم والعقل والموروث.. فالفكر لا يواجه إلا بالفكر وأخطاء الحرية لا تعالج إلا بمزيد من الحرية دون تجاوز أو انفلات أو هدم للثوابت.. ولا أدري لماذا لا ندرّس للأجيال الجديدة أفكار المفكرين الإصلاحيين العظام. حتي لا نتركهم عرضة لهيمنة فصيل بعينه ولمزايدات لا يدفع ثمنها إلا هذا الوطن.. لماذا لا نكرس لقيم احترام التخصص وأهل العلم في كل صناعة ومجال. إعمالاً بقول الله تعالي ¢ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ¢ حتي يمتنع الرويبضة والمنتفعون عن الخوض فيما هو أكبر منهم.. متي نري تفاعلاً فكريًا حقيقيًا يعيدنا لعصور النهضة الحقيقية بكل ما فيها من عمق واستنارة وتقدم إنساني حقيقي حتي نمتلك من جديد ناصية العلم والفكر والحضارة..؟!