تعيش المجتمعات العربية حالة من التناقضات الاجتماعية والفكرية الشديدة فبينما تزداد الثروة الملكية وتتضاعف بدرجة هائلة بين يدي قلة من أبناء المنطقة تزداد الغالبية فقرا وإعوازا كما ينتشر بينهم الكثير من الأمراض الاجتماعية مثل الفقر والبطالة في غيبة سياسات اجتماعية رشيدة تحقق العدالة الاجتماعية لكل أبناء الوطن. أيضا يمتلك مثقفو المنطقة وهم قلة القدرة علي الفكر والإبداع والتحليل والبحث في ذات الوقت الذي تنتشر بينهم حالة من التشرذم والتفكك والاختراق فتفقد وجودها وتأثيرها. كما تنتشر بين الغالبية العظمي الأمية والجهل والاعتقاد في الخرافات والغيبيات ساعدت الفضائيات وشبكة المعلومات الدولية ووسائل الاتصال الحديثة علي انتشار هذه الحالة من التناقض. وبينما تتمسك الشعوب العربية بالتقاليد والأعراف والممارسات الدينية تتفشي ظواهر الرشوة والمحسوبية والكذب والفساد وكسر القوانين واللوائح والفوضي في مناحي الحياة المختلفة. وفي إطار ذلك ترفض غالبية شعوب المنطقة قيم الحداثة المرتبطة باعمال العقل والنقد والتغيير مقابل استسلامهم لسطوة التراث والنقل والتقليد باعتبار أن الحداثة في نظرهم غزوة غربية ينبغي مقاومتها ورفضهاد في الوقت الذي تنتشر فيه الأفكار والمعتقدات والتراث غير التقدمي عن طريق وسائل الاتصال الحديثة. في إطار ذلك تواجه الشعوب العربية حالة من الصدام والمواجهة الحادة بين الثقافة السائدة التقليدية النقلية في معظمها وبين الحداثة في إطار مفهوم الدولة الحديثة المؤسسة علي مرجعيات المواطنة وحقوق الإنسان والعلم والتفكير العلمي. ونجد أن هناك صراعا كان تحتيا في السابق والآن أصبح جهريا بين فكر القبلية والانتماءات التقليدية دينية أو عرقية أو طائفية أو نوعية في مواجهة التعددية والتنوع بكل أشكاله صراع المساواة في مواجهة التمييز والتحيز ضد كل ما هو مختلف. صراع بين الهوية التراثية وبين هوية تحفظ التراث بينما تنفتح وتتواصل مع الحضارات والثقافات في عصر تتلاشي فيه المسافات والحدود الجغرافية والزمنية دون أن تفقد معالمها. صراع وصل إلي أقصي مدي فبعد ان كان في صور الرفض والإقصاء والتهميش أصبح في صور القتل والحرق والتدمير والتهجير القسري وانتزاع الأملاك والمقتنيات لكل من هو مخالف دينيا أو طائفيا أو عرقيا أو ثقافيا. وكله يتم باسم الدين كما يراه أصحاب هذه الجرائم اللا انسانية. لقد نقلت المجتمعات العربية عن الحداثة قشورها وليس مضمونها مظهرها وليس جوهرها الفكري والقيمي فأحدث ذلك تطورا سطحيا لم يضع الثقافة السائدة موضع النقد والتساؤل والتحول كما ان المجتمعات العربية ومنذ منتصف القرن الماضي لم تقم بحركة تاريخية لها تأثيرها في نقد الحداثة وما بعد الحداثة لتكتشف جوانبها المتعددة إيجابية كانت أم سلبية لتتحرك نحو بناء حداثة عربية خاصة كما حدث في مناطق أخري من العالم. علينا أن نتعلم من الحداثة في التجربة الماليزية والهندية واليابانية وهنا بإمكاننا استلهام ماضينا بما يحوي من حضارة عريقة في بناء حضارة اليوم والمستقبل. لم تقم نهضة في التاريخ الإنساني إلا بحرية إعمال العقل والفكر والبحث ورفع كل القيود والحواجز التي تمنع ذلك وأن يكون للعلم والبحث العلمي مكانتهما في الدولة الحديثة وأن يسود التفكير العلمي عقول المواطنين وسيادة حق وحرية الاختلاف وتطوير الرؤي والاجتهاد والتفسير والاعتراف بالتعددية وتأكيد حق الاختيار السياسي والديني والطائفي لكل مواطن دون قهر ودون استبعاد أو إقصاء أو تمييز ضد أي مواطن. هنا فقط نستطيع أن نتحرك من حالة التناقضات السلبية التي تدفع نحو التخلف والتحزب والإقصاء.