غداً عيد الثورة المصرية. ولو أنها لم تكتمل.. يقولون اتخطفت! ومنذ ستة وثلاثين سنة امتلأت الشوارع بالناس دون إنذار يهتفون من قلوبهم: "يا ساكنين القصور. الفقرا عايشين في قبور".. "سيد مرعي" "أي اسم" يا سيد بيه. كيلو اللحمة بقي بجنيه. حيوصل 100 جنيه. "هو بيلبس آخر موضة.. واحنا بنسكن عشرة في أوضة". يومها خاف الرئيس "السادات". وكان بعيداً في أسوان. فأعد طائرته الخاصة للسفر إلي السودان. لولا أن الجيش نزل الشوارع. والداخلية قبضت علي من تشاء. تشجع الرئيس. وأعلن: "العيال بتوع انتفاضة الحرامية دول أنا حاعرف أربيهم". بعد المحاكمة وشهود ضباط أمن الدولة أصدر المستشار "حكيم منير صليب" رحمه الله. حكمه التاريخي بالبراءة.. وعرفنا حكاية "الشاهد الطائر" الذي رأي شخصين في مكانين مختلفين في وقت واحد!! سبب الانتفاضة معروف. هو رفع الدعم عن السلع الأساسية. وغلاء الأسعار.. والمثل يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة. بدأت علي غير توقع وامتدت إلي كل مكان. وكانت كالنار في الهشيم. قامت.. وأنا في القرية.. أقصي شمال الدلتا. جالس وحدي علي كنبة بلدي فيما يشبه التراس. وتسمي "شكمة". ويسميها البعض "فيراندا".. علي امتداد البصر طريق ضيق نسميه "الحد" يقود إلي "الزراعية" ويسمونها أحيانا "الأسفلت". فهي الطريق الرئيسية للقرية والقري المجاورة.. لا أحد يظهر علي "الحد".. إلا إن كان قادماً إلي بيتي. أو فلاحاً ذاهباً إلي الحقل.. ولكنه ضابط عملاق بملابسه الرسمية. يركب حصاناً يدب في الأرض.. الباشا وصل.. أصابني قلق.. كانت الأنباء تأتي متناثرة. فلم يكن هناك موبايل أو إنترنت. أو فضائيات.. ولكن الأخبار السيئة تأتي سريعاً. وخطاب الرئيس يذاع في الراديو. وحظر التجول في القاهرة. والمدن الكبري. والحرامية تم اعتقالهم.. فلما حاولت أن أعرف بعض الأسماء بمشقة. كان من بينهم أصدقاء. آخرهم "عبدالمنعم القصاص" الذي كنت أراه فناناً رقيقاً.. إذن القلق وارد. لقد كان اعتقالي الأول والأخير لأن لي بين المناضلين صديق. فمن يدري؟! الضابط جاي. لم يسعفني الخاطر أن زوار الليل لا يأتون بالنهار إلا إذا كان الأمر خطيراً. ولا يلبسون الميري. حتي لا ينكشف أمرهم. ولا يركبون الفرس. ولا يأتون وحدهم.. ومع ذلك استبد بي القلق. حتي بعد أن بدأ بالسلام. وإن بدا حائراً. يسأل: فين دوار شيخ البلد؟!.. تصورت أنه يريد أن يستعين به.. أجبته مستسلماً.. لأعرف بعدها أن شيخ البلد توفيت عنده جاموسة. وضابط النقطة جاء يعري!!!... تقبل الله منا ومنك!! قائمة طويلة من المعتقلين "171" متهماً: عبدالقادر شهيب أصبح رئيس مجلس إدارة "دار الهلال" و"أحمد بهاء الدين شعبان" أحد زعماء ثورة الطلبة. وأحد زعماء ثورة يناير. رمز "لأنها مستمرة". و"أحمد فؤاد نجم" الذي سألوه في التحقيق: قصدك إيه من القصيدة دي؟!.. قال للقاضي مندهشاً: إذا كنتم مش فاهمين يبقي رجل الشارع حيفهم.. براءة. وكان من بين المعتقلين بدون ترتيب أو تمييز مع الاعتذار عن عدم ذكر الجميع: مجموعة من عشرة مناضلات. و"رضوان الكاشف" المخرج الراحل. و"شهرت" ابنة "محمود أمين العالم". والشعراء: "محمود توفيق. وسمير عبدالباقي".. ومحامون ويساريون ورافضون: "زكي مراد. ومبارك عبده فضل". غير الزميل "حسين عبدالرازق" الذي اختص به اللواء "سيد زكي".. وكان مسئول الصحافة في المباحث. أو العكس.. فجاء إلي المحكمة ليشهد بأنه رآه بالذات وهو يعرفه جيداً.. ومن الصحفيين: "فيليب جلاب. وصلاح عيسي. ومحمد سلماوي. والرسام زهدي. وأحمد الجمال. ورشدي أبوالحسن. ويوسف صبري. وحمدين صباحي وغير "كمال خليل" أحد زعماء ثورة شباب التحرير. ولكن السن تقدمت به فأصبحوا ينادونه "عم كمال" وقد أصدر بالمناسبة كتابه الجديد "حكايات من زمن فات". المحامون متطوعون وهم احتراماً وتقديراً: "عادل أمين. ونبيل الهلالي. وعصمت سيف الدولة. وممتاز نصار. ويحيي الجمل. وعصام الإسلامبولي. وسامح عاشور. وعبدالله الزغبي".. مجموع المحامين خمسة وعشرون محامياً". وعضوا اليمين واليسار في المحكمة التي أصدرت بشجاعة حكم البراءة برئاسة المستشار "حكيم صليب" هما: "علي عبدالحكيم عمارة. وأحمد محمد بكار". الشاعر "زين العابدين فؤاد" أحد المتهمين يكتب اليوم علي الفيس بوك: "الزمن طويل. لكن احنا الحرامية!!.. بنحتفل وفي برامج فضائية. ويعدها ننزل علي الشارع نحتفل بانتفاضة الشعب!! بعد الانتفاضة.. وفي أواخر السبعينيات عقد السادات اجتماعاً مع كبار الصحفيين والإعلاميين والمساعدين المقربين في استراحته المفضلة بالقناطر الخيرية لاختيار رؤساء الصحف في المرحلة القادمة. بدأ ب"إبراهيم نافع" رئيساً ل"الأهرام". فلما وصل إلي "روز اليوسف" نظر إلي "صلاح حافظ". وأشعل البايب بتؤدة. وقال: نأتي إلي "روز اليوسف".. ما رأيك يا صلاح في انتفاضة 18 و19 يناير. انفاضة شعبية. ولا حرامية؟!.. تكهرب الجو. فقد كان موقف صلاح معروفاً ومكتوباً.. ولكن صلاح أخذ بهدوء شديد وبابتسامته العذبة. وبلا تلعثم يشرح الأسباب الموضوعية للانتفاضة.. قال السادات: أنا يا صلاح كنت سأصدر اليوم قرار تعيينك رئيساً ل"روزا".. وقام باختيار شخص آخر. رحمه الله. تمني عليه أن يهبط بتوزيع المجلة العريقة. التي عمل هو نفسه "الرئيس" مراجعاً صحفياً بها. بعد أن فصل من الجيش قبل ثورة يوليو.. سأله الزميل مرة في لقاء لاحق: إيه رأيك يا ريس في المجلة؟!.. أجابه: ريحتني. بطلت أقراها!!.. صلاح حافظ كان سر النجاح الثاني لمجلة "روز اليوسف" بعد إحسان عبدالقدوس وأحمد بهاء الدين. وقبل عادل حمودة. وفريق الأشبال: "إبراهيم منصور. عبدالله كمال. وعمرو خفاجي. ووائل الإبراشي. وإبراهيم خليل. وإبراهيم عيسي" الذي قال كلمته الشهيرة في تكريم حمودة: "كبيرنا الذي علمنا السحر".. وقد أصبحوا جميعاً رؤساء تحرير. بعد سنوات ظهرت أعمال فنية جميلة تناول أحداث الانتفاضة. مثل فيلم "زوجة رجل مهم" للصحفي الجميل "رءوف توفيق". والمخرج الأجمل "محمد خان". بطولة النجم الراحل الموهوب "أحمد زكي" ضابط مباحث يتيه بسلطته ويتجاوز حدوده. ويفقد نفوذه ووظيفته بعد توابع انتفاضة يناير. وجاءت السيرة في فيلم "الفاجومي" لخالد الصاوي. عن قصة حياة الشاعر "أحمد فؤاد نجم" الذي يغني معه الشباب: "كل ما تهل البشاير من يناير". وفي رواية "بيت النار" لمحمود الورداني. يعمل الفتي "مصطفي" عند مكوجي في بولاق. وأعمالا أخري ليساعد أسرته علي الحياة الصعبة. حتي يهرب من الاعتقال مع أحداث الانتفاضة التي شارك فيها. * * * غداً عيد الثورة التي لم تكتمل.. يقولون: اتخطفت!!