هل هناك علاقة بين السياسة والكذب.. بينها وبين النفاق والتضليل.. بينه وبين اغتيال أحلام البسطاء بمعارك غوغائية لا هدف من ورائها سوي تحويل الوطن.. أي وطن إلي غنائم والاقتتال علي الفوز بها؟.. اعترف أنني لم أمارس السياسة ولم احبها يوما.. ولكني ابدا لم أصل برأي في الساسة والسياسة إلي ما وصل إليه الاديب الراحل مصطفي لطفي المنفلوطي قبل حوالي مائة عام أو يزيد. ففي نظرة من نظرات الأديب الراحل طرح سؤالا افتراضيا علي لسان قارئ حول السبب الذي يجعله عازفا عن الكتابة في السياسة وشئونها وشجونها.. ثم رد علي السؤال الأفتراضي بكلمات نارية لا أعرف أفضل منها في تشخيص الوضع الراهن في عالمنا العربي أو في معظمه.. قال المنفلوطي قبل قرن من الزمان: يعلم الله أني أبغض السياسة وأهلها بغضي للكذب والغش والخيانة والغدر. قال المنفلوطي والعبرة بالطبع علي الراوي.. حتي لا تنالني شظايا التخوين واتهامات العمالة: انا لا أحب أن أكون سياسيا لأنني لا أحب أن أكون جلادا.. لا فرق عندي بين السياسيين وبين الجلادين.. إلا أن هؤلاء يقتلون الأفراد.. وأولئك يقتلون الأمم والشعوب. قال المنفلوطي في عصر الخديوية غير الديمقراطية.. دون أن يسحل أو يسجن: هل السياسي إلا رجل قد عرفت أمته أنه لا يوجد بين أفرادها من هو أقسي منه قلبا ولا أعظم كيدا.. ولا أكثر دهاء ومكرا.. ايستطيع الرجل أن يكون سياسيا إلا إذا عرف أن بين جنبيه قلبا متحجرا لا يقلقه بؤس البائسين ولا تزعجه نكبات المنكوبين.. أيستطيع الرجل أن يكون سياسيا إلا إذا كان كاذبا في أقواله وأفعاله.. يبطن ما لا يظهر ويظهر ما لا يبطن ويبتسم في مواطن البكاء ويبكي في مواطن الفرح والابتسام؟ هل قرأ المنفلوطي المشهد السياسي في مصر المحروسة الآن قبل أن يكتب كلماته النارية؟.. وهل هناك وصف لما يحدث الآن أفضل من وصفه.. ورؤية أفضل من رؤيته؟.. انظر معي إلي المشهد العام في مصر الثورة المباركة التي أريقت لأجلها دماء وسقط علي مذبحها شهداء.. فوضي سياسية بكل ما تعنيه الكلمة من معان.. معارك كلامية طاحنة علي كل شيء واي شيء؟.. علي الدستور.. علي حرية الصحافة.. وحتي علي حادث دام اوجع القلوب واراق الدموع انهارا.. حادث اغتيال أحلام عشرات الأطفال الأبرياء بقطار جامح وحافلة مكدسة بضعف طاقتها وعامل مزلقان تحول إلي كبش فداء.. حتي علي هذا الحادث الموجع لم نتفق.. وبلغ منا الشطط مبلغه.. فمن مطالب باسقاط الرئيس إلي مطالب باسقاط نظام مبارك الذي سقط. هل كان المنفلوطي.. رحمه الله.. يعلم أن فقراءنا يزدادون فقراً.. أن تعليمنا يزداد انهيارا وترديا.. أن خدماتنا الصحية أصبحت مرفوعة تماما من الخدمة.. إلا لمن يملك ثمنها ويستطيع الوفاء بمتطلباتها.. هل كان يعلم أن الحياة بكرامة في هذا الزمن الصعب أصبحت غالية الثمن باهظة التكاليف.. وأنها أصبحت حقا لمن يملك نفقاتها وحكرا عليه.. فيما السواد الأعظم من شعبنا الصابر يختصر كرامته مجبرا مقهورا في رغيف خبز يسد الرمق وجرعة ماء تمرض البدن أكثر مما تردي الظمأ.. بينما الساسة منشغلون بمعاركهم الخاصة.. يتحدثون عن شعب لا يعرفون شيئا عن همومه.. يصادرون إرادة شعب لا تهتز أجفانهم لعذابه وآلامه.. يتنازعون علي الدستور وعلي سيادة القانون وعلي فوضي الشارع وانهيار الأمن وعلي انهيار وشيك للاقتصاد وعلي توقف الإنتاج وانهيار البورصة وعلي قرض صندوق النقد وسعر الدولار وجنون الأسعار.. يتنازعون ويتشاجرون ويتبادلون الاتهامات بالتخوين والعمالة وحتي الكفر ومعاداة صحيح الدين.. دون أي محاولة للتوافق أو أي جهد للاتفاق علي خريطة طريق تنقذنا من ضياع وشيك. لو كان المنفلوطي بيننا الآن لسألته: إلي أين نسير وما المصير؟.. فأنا لا أعرف وأظن أن كثيرين غيري لا يعرفون.. المشهد ضبابي والصدام قادم لا محالة والشعب الصابر يقترب من مرحلة نفاد الصبر.. لو كان بيننا لسألته عن نتائج حالة الصدام التي تسيطر علي مجمل المشهد السياسي.. عن تلك المعارك التي لا فائز فيها.. والتي تجسد حقيقة أن الخاسر الأكبر هو الشعب الذي ثار علي الظلم والفساد وترك زمام أمره لساسة يتصارعون.. ونخبة يختلف أفرادها علي كل شيء إلا شيء واحد: إبقاء الخلل الاجتماعي المذري علي ما هو عليه: الفقير يزداد فقراً.. والغني يزداد غني.. والفاسد يزداد فسادا. في جمعة الحساب ضرب المصري أخاه المصري.. أحرق المصري ممتلكات أخيه المصري.. في محمد محمود تبادل مصريون مع مصريون القذف بالحجارة والمولوتوف.. تبادلوا الضرب والقتل.. مئات المصريين جرحي في كل مناسبة وبلا مناسبة.. سالت دماء مصرية علي أرض مصرية بأياد مصرية.. في سيناء.. في ميدان التحرير.. في شارع محمد محمود علي مزلقان قطار الموت. في كل مشاهدنا تكريس للكراهية وتقسيم للشعب.. بالأمس القريب كان ثوار محمد محمود أبطالاً أبراراً وقتلاهم شهداء لهم الجنة.. واليوم أصبحوا بلطجية ومرتزقة.. اختلطت الأوراق وتداخلت المفاهيم.. وضاعت الحقيقة.. ولم يعد أمامنا سوي مقولة سعد زغلول الشهيرة.. ومن بعدها: لك الله يا مصر.