يري عدد من المحللين الثقافيين أن مجتمع القرن الحالي يقوم علي إعادة إنتاج الواقع الافتراضي. حيث أن تكاثر عدد الفضائيات وشاشات البث المباشر عبر الشبكة الدولية للمعلومات أدي إلي تغير في نظرية المحاكاة التقليدية، حيث كانت الفنون الدرامية والتعبيرية بشكل عام تقوم بمحاكاة الواقع وإعادة إنتاجه والتعبير عنه أما مايحدث الآن مع النمو اللا محدود للصور المرئية، فإن الواقع هو الذي يعيد إنتاج ما يتم بثه من صور درامية وواقعية مصنوعة وأصبح العالم الافتراضي المرئي خاصة مايمكن تسميته بالبث المباشر لمشاهد معينة هو الوسيلة الفاعلة لصنع رأي عام محدد، وطريقة تفكير بعينها، وأحيانا وسيلة لترويج الأزياء والشعارات الجديدة. وطريقة لصبغ المشهد العام بصبغة معينة. لعل تأثير البث المباشر لجمعة 18/11/2011 علي المشهد العام في مصر يعد نموذجا واضحا لقدرة تحالف الإخوان والسلفيين علي استيعاب الهامش المشترك مع باقي القوي السياسية حول وثيقة السلمي ،إدماجه في مطلب واحد وصبغه بصبغة دينية. وإذا كان عدد من أساتذة العلوم السياسية اتفقوا علي أن مصطلح الدولة الحديثة ذات الصبغة الديموقراطية هو المصطلح الأدق. وأن تعبير الدولة المدنية غير دقيق في أدبيات السياسة الحديثة وسعيا حول دقة الاصطلاح، اتفق معظمهم علي تعبير المجتمع المدني كبديل اصطلاحي دقيق. إذن تعبير الدولة المدنية في وثيقة السلمي هو خطأ اصطلاحي شائع وصحته الدولة الحديثة التي ترعي المجتمع المدني وعليه فتراجع د. علي السلمي عن تعبير مدنية الدولة هو تصحيح إصطلاحي لذلك التعبير غير الدقيق. ووسط استخدام الاختصاصي الأكاديمي للخطأ الشائع الإصطلاحي في وثيقة مصيرية، ولاعتراض عدد من الناشطين السياسيين وعدد من القوي السياسية الأخري علي بنود أخري بالوثيقة، خرجت المليونية لإستيعاب الهامش الليبرالي والاشتراكي وغيره، ضمن صياغة ذات طابع درامي تستخدم الزي (الجلاليب البيضاء)والعلامة الإسلامية التقليدية (اللحية) وتخلط بين الشعار الديني والمناداة بتطبيق الشريعة الإسلامية وبين الاعتراض السياسي علي وثيقة السلمي، بينما يمكن تفسير المشهد كله في ضوء قدرة البث المباشر للشاشات اللانهائية، علي أنه إعلان للقوة يحمل التأثير النفسي الواضح علي جموع المتفرجين من المصريين في منازلهم وعلي المقاهي وفي التجمعات المختلفة قبيل بدء العملية الانتخابية بقليل. وهي محاولة لاستباق النتيجة الانتخابية، وإعلان صيغة بعينها لتبدو وكأنها هي صبغة الأغلبية المصرية. ثم يقوم رجال الأمن المركزي في اليوم التالي السبت 19/11 بمنح الفرصة لعودة الاشتباكات بميدان التحرير عقب فضهم لاعتصام مصابي الثورة وذويهم، وهو اعتصام محدود، ليتحول المشهد إلي معركة بالطوب وقنابل الدخان طوال ليلة الأحد التالي لأحداث الجمعة الإنتخابية، وينضم عدد من شباب الثورة دون إعلان لصبغة أو هوية سياسية، إنهم هؤلاء الذين يتشككون في المستقبل، ولايعرفون كيف يحافظون علي ثورتهم ويحصلون علي مكاسبها بالطرق السياسية لغياب القدرات التنظيمية وتجريف العمل السياسي لعقود طويلة، ولتقاعس النخبة والمجتمع المدني عن استيعابهم. والنتيجة علي أرض الواقع هي صناعة الإيقاع العام المتوتر قبيل العملية الانتخابية، وربما يزداد التوتر لمحاولة تعطيلها وعليه أصبح المجتمع المصري الآن بأغلبيته الصامتة(الجموع الكبيرة التي لاتخرج للميادين)في موقع المتفرج مما أدي إلي التباس المشهد العام. وعليه أصبح (مجتمع الفرجة) الصامت هو الرهان الحقيقي لمستقبل مصر عبر نزاهة العملية الانتخابية. ومعظم تلك الجموع لاتوجد دراسة حقيقية لمجموع الأفكار الحاكمة لها. وفي ظل تقاعس النخب السياسية والثقافية والثورية عن توجيه الخطاب لها أو الحوار الحقيقي معها لايصبح في المشهد العام إلا إعلان القوة بالزي والشعارات للتأثير عبر الشاشات في تلك الجموع الصامتة. وبالتالي وفي إطار تأثير الصور والشاهد عبر البث الدرامي أصبح الهدف الآن لجميع أطراف المعادلة السياسية في مصر هو التأثير في تلك الأغلبية الصامتة ومع تبادل الاتهامات بين الجميع تبقي تلك الجموع حائرة فمعظمها لم يشارك في مشاهد ما بعد 25 يناير ورحيل رأس النظام السابق ورجاله. فهل يتحول صندوق الإنتخابات في مصر إلي صندوق الدنيا فيه تري الجموع المشاهد الدرامية المصنوعة بحبكات تقليدية مستهلكة ومكررة تستخدم الأزياء وحماس الشباب والشعارات القديمة، بينما يمارس أهل النخبة حزنهم التقليدي وعزلتهم التاريخية عن الشارع المصري؟. إن أخطر ما يحدث الآن في مصر هو التكريس لمجتمع الفرجة وتحويل الملايين المصرية لمشاهدين أمام الشاشات اللانهائية. وصنع الالتباس والغموض وشيوع ثقافة الاتهام وتشتيت الذهنية العامة قبيل العملية الانتخابية، وخيانة مشهد الوحدة بين كل قوي ومؤسسات المجتمع المصري الذي اصطف صفاً واحدا بكل أطيافه في ثورة 25 يناير. لا أعتقد أن صيغة المشاهدة/ الفرجة هي التي ستسيطر علي مصير العملية الانتخابية، فالوعي العام المصري أكثر عمقا حتي لو انفصلت عنه نخبته السياسية والثقافية والدينية.