فى سابقة هى الأولى فى تاريخ مصر، وربما فى تاريخ الدول كافة، قام شباب من التيارات السياسية المختلفة التى كانت تحتفل بذكرى مرور عامين على أحداث (محمد محمود) بحرق علم مصر، الذى كان معلقًا على جراچ التحرير بطول 30 مترًا. الغريب أن (أقلام النفاق) طالبوا بإعدام من قام بهذا العمل -الذى نستنكره بالطبع- ولم يناقشوا الأسباب التى دفعت الشباب إلى القيام به، وهى أسباب لم تخرج عن: الإحباط واليأس اللذين أصابا هؤلاء الشباب، من عدم القصاص لقتلاهم، وعدم الاستجابة لمطالبهم المشروعة، وعدم تقدير نضالهم من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، بل تعرضوا فى الوقت نفسه لهجوم الشرطة والبلطجية وقد وقع قتيلان وأصيب العشرات واعتقل مثلهم، فى ظلال هذه الأجواء المحبطة يبحث الشاب عن وسيلة للانتقام ممن تسبب فى كل هذا الأذى، فلا يجد سوى علم البلد ليقتص منه؛ إذ هو رمز السلطة التى قتلته وطاردته وهضمت حقوقه، وفى اعتقاده أن حرق العلم أهون من قتل من ارتكب الجرائم فى حقه. فضلا عن قناعته بأن تلك رسالة قاسية منه إلى من يديرون البلاد تفيد بأنهم منبوذون.- منذ عقود وعلماء الاجتماع والنفس والسياسة، يتحدثون عن ضعف الانتماء لدى الشباب المصرى، جراء ما يتعرض له من إهانة وإهمال، وما يراه من محسوبية وتفاوت طبقى وتقسيم اجتماعى، ولطالما نبه الخبراء إلى خطورة هذه الظاهرة؛ لتلامسها مع الأمن القومى خصوصًا الجانب المتعلق بالسلم الاجتماعى الذى عليه مدار استقرار البلاد وخلوها من الأزمات والمشكلات، لكن لا حياة لمن تنادى، فليس غريبًا إذًا أن يعلن الشباب بلسان الحال عن كفرهم بهذا البلد وبمن يحكمونه، وخير وسيلة -فى نظرهم- للتعبير عن هذا الرأى هو حرق علم بلدهم الذى لم يراعهم يومًا فيما مضى، وليس فى نية مسئولية مراعاتهم فيما هو آت. وإذا كان علم البلد هو فخر بنيه، يرفعونه راية تدل عليهم، وتفجر فيهم طاقات الحماسة والجندية والبذل، وتدفعهم دفعًا إلى البطولة، فإنهم -واقعيًا- لم يشعروا بشىء من مثل هذا، صحيح يسمعون أغانى وأهازيج وطنية، ويرون هذا العلم يرفرف خفاقًا على أسطح الهيئات والمصالح الحكومية، ومؤخرًا على دبابات السيسى، لكنهم لم يشعروا يومًا بهذا الشعور الوطنى الجميل، بل لا يرون هذا العلم سوى قطعة قماش يغرر بها المسئولون بالمواطنين البسطاء ويدغدغون بها مشاعرهم، وشباب اليوم متعدد الصلات، متنوع مصادر المعرفة والثقافة، لم يعد منقادًا أو منعزلا أو مخدوعًا أو مضحوكًا عليه، فهو يقدر هذا العلم أن رأى ممن يرفعونه تقديرًا لشخصه، ويرفعه مفتخرًا به أن ضمن إخلاص الجميع، لا أن يُستخدم هو صنيعة لمسئولين مجرمين يتكسبون من ورائه باسم (حب مصر) و(عشق ترابها)، وغيرها من الشعارات الرنانة التى ليس لها جدوى على أرض الفعل والواقع.- والمعنى الأخطر فيما حدث أن حرق العلم يعنى التحقير، والتصريح بالعداوة والإيذان بالدخول فى الحرب، مثلما نفعل مع أعلام الصهاينة والأمريكان حال ارتكابهم الجرائم، وهذا يدلك على أن الأمر تعدى قضية الانتماء إلى ما هو أخطر، فأقصى أفعال عدم الإحساس بالانتماء -كما تفعل الغالبية- الانسحاب من المشهد وتعاطى السلبية وصرف الاهتمام عن قضايا البلد وأزماته، لكن أن تبدى العداوة وتحرق العلم الذى يُفهم منه تمنِّى حرق البلد الذى يمثله هذا العلم، فهذا أمر خطير، لا يعالج بمقالين أحدهما للشيوعى صلاح عيسى وللمتقلب وحيد عبد المجيد، بإجماعهما على أن الإخوان هم من أحرقوا العلم وانتهت بذلك القضية، ويعلم الجميع كذب من يقول إن الإخوان هم من حرقوا العلم، إنما هؤلاء يريدون القفز على القضية، وتسطيحها وإقناع السذج والبسطاء بأن الأمر لا يعدو انتقامًا من إرهابيين ينبذهم المجتمع لما جرى لهم فى رابعة والنهضة، الأمر -فى الحقيقة- يحتاج إلى أناس أمناء محبين لهذا البلد حريصين عليه، يجتمعون لدرس الظاهرة بموضوعية وحياد، واستخراج التوصيات العملية لإصلاح هذا الخلل، وأرى أن يكون على رأس هذه القوصيات: التراجع عن الانقلاب ومحاكمة من قاموا به والقصاص للشهداء، واحترام الاستحقاقات الانتخابية السابقة التى وضعتنا على أول طريق الديمقراطية، ثم تم قطع هذا الطريق بقوة الخديعة والبطش.- وليعلم النائب العام، قبل أن يشرع فى التحقيق فى هذه الحادثة، أنها لن تكون الأخيرة؛ لأن هذا النائب نفسه أتى على غير إرادة هؤلاء الشباب؛ فكيف إذًا يحاسبهم؟، دعوكم من تلك الحلول الديكتاتورية الغبية، وفكروا فيما يصلح الشباب، وعالجوا التناقض الذى تعيشونه والحرام الذى تنغمسون فيه، فمن المضحك المبكى أن تفتحوا التحقيق لحرق قطعة قماش ولم تفتحوا التحقيق فى مقتل آلاف الصالحين المخبتين، ووفى ضياع بلد بكامله لصالح عدة مأفونين، أن هذا يؤكد أنكم جندٌ من جنود إبليس اللعين، وأقسم على ذلك.