لقد خَلُصت من متابعتى للمُتغيرات السياسية التى تشكل الواقع المصرى المعاصر إلى الكثير من النظريات التى لا نظير لها فى علم السياسة منذ نشأته، ومن أكثر النظريات التى تفتق عنها ما تمر به البلاد من أحداثٍ، وتفرض نفسها على الواقع السياسى ما يمكن أن نسميه بنظرية "الاستهبال"!. ومن الجدير بالذكر أن تلك النظرية ذاتُ منشأٍ قضائىٍّ، تبلور فحواها حين دعا رئيس نادى القضاة جميع من يجلس على منصة الحكم إلى إهدار ما يصدر عن مجلس الشعب من قوانين، وقد بلغ الاستهبال أقصى مداه حين حاول مجلس إدارة النادى - على غير الحقيقة - تسويق فكرة أن ما يصدر عنه من توصيات يتسم بصفة الإلزام للقضاة، وأنهم لا يستطيعون مخالفته، وكأن نادى القضاة هو من يملى الأحكام على القضاة، ويحدد أىَّ قانونٍ يطبقه القاضى فى حكمه، وأىَّ قانونٍ يَضْرِب به عرض الحائط، وهو ما يعنى - فى نظرهم - أنَّ القضاء تحت وصاية نادى القضاة، ومع ذلك يدَّعون أنَّ النظام الشرعى للبلاد - الذى قوَّضت أحكام القضاء أركانه دون أن يسعى من قريبٍ أو بعيدٍ إلى التدخل فى الشأن القضائى، بل إنه احترم كل ما صدر من أحكامٍ، وبادر إلى تنفيذها - ينال من هيبة القضاء واستقلاله. إن نادى القضاة يدعو إلى تفعيل دولة القانون، فى الوقت الذى يعمد فيه إلى الإطاحة بالقانون ودولته، وينادى بالحفاظ على استقلال القضاء، وهو من يتدخل فى شئون العدالة طالبًا إلى القضاةِ بل آمرًا لهم - بغير الحق - أن يمتنعوا عن تنفيذ ما يصدر من قوانين الدولة، ويُظهر احترامَه مبدأ الفصل بين السلطات، فى حين يفرض وصايته على السلطة التشريعية، ويمنع تنفيذ ما يصدر عنها من قوانين، أو يقف حجر عثرةٍ للحيلولة دون أن يُصدر ممثلو الشعب ما يحقق المصلحة العامة من القوانين، مثلما حدث عندما شن هجومًا - لا مبرر له - على مجلس الشورى المخول دستوريًا بإصدار القوانين بعد حل مجلس الشعب؛ ليمنع إصدار قانون السلطة القضائية الجديد . ومن مظاهر سياسة الاستهبال التى - غالِبًا - ما ستنتقل إلى كل دول العالم المتخلف بعد أن استكملت كل أركانها، ما قام به تجمهر من القضاة وأعضاء النيابة العامة - بتحريضٍ من نادى القضاة - من حصارٍ لمكتب النائب العام بالأسلحة النارية لإجباره على الاستقالة، ومن إضرابٍ عن العمل بدعوة من رئيس النادى، ومر ذلك دون أن يُحَاسبَ قاضٍ أو عضوٌ للنيابة، أو يُخصم من راتبه جنيهٌ واحدٌ، وتُرك نادى القضاة ينظم مؤتمراتٍ يتناول فيها مسائل الحكم وقضايا السياسة على نحوٍ غير مسبوقٍ، ويوجه السباب للحكومة ورئيس الدولة، بل إن الأمر قد وصل إلى الاستعانة بالدول الأجنبية للتدخل فى شئون مصر، والمشاركةِ فى تظاهُراتِ 30 يونيو - وهو ما يعد خرقًا لقانون العقوبات من ناحيةٍ، ولقانون السلطة القضائية الذى يحظر على القضاةِ الاشتغال بالسياسة من ناحيةٍ أخرى - ولم يُحَاسب أحدٌ قط، ثم يدعى نادى القضاة بعد ذلك أن القضاة كانوا قبل الانقلاب يتعرضون لانتهاكاتٍ وضغوطٍ من قبل الدولة، أليس اتهامُ الجانى للمجنىِّ عليهِ أنه اقترف فِعلتَهُ المؤَثَّمة نوعًا من الاستهبال؟! وأخيرًا فإن التصريحات التى سيقت على لسان وكيل نادى القضاة، أن وفدًا من القضاة شكله النادى للمشاركة فى الاجتماع السنوى للجمعية العامة للاتحاد الدولى للقضاة، الذى سينعقد الأسبوع القادم، سيشرح "كيف أن الشعب ثار دفاعًا عن استقلال القضاء، للتأكيد على أن ما حدث فى 30 يونيو هو ثورةٌ تمثل الإرادة الشعبية، والقضاة كانوا فى طليعة هذه الثورة والمحرك الرئيسى لها، وهو ما يؤكد أنها ثورةٌ شعبيةٌ، وأن الوفد سيوضح لقضاة العالم - خلال مشاركته فى اجتماع الاتحاد الدولى للقضاة - أن ما يتم اتخاذه من إجراءات فى مصر تنفيذا للإرادة الشعبية وإعمالًا للديمقراطية ودولة القانون، باعتبار أن ذلك دورٌ وطنىٌّ لقضاة مصر. أليست تلك التصريحاتِ اعترافًا صريحًا بأن قضاةَ الزند اشتغلوا بالسياسة لدرجة أنهم كانوا المحرك الرئيسى لجريمة قلب نظام الحكم حنثًا بالقسم الذى أقسموه أن يحترموا الدستور والقانون؟ كما أن الدفاع عن الانقلاب والحديثَ عنه كأنه ثورةٌ شعبيةٌ فى محفلٍ أعد لمناقشة ما يهم الساحة القضائية فى دول العالم من مشكلاتٍ سعيًا لإيجاد حلولٍ لها، أليس ذلك اشتغالا بالسياسةِ؟ وفى الوقت ذاته يُحاسب قضاة تيار الاستقلال وأعضاء حركة قضاة من أجل مصر - بإيعاز من الزند والانقلابيين - أنهم أبروا بقسمهم، وكانوا ظهيرًا للشرعية الدستورية التى أقسموا على احترامها، والتى تعد عماد العمل القضائى الذين يسعون لأدائه على وجهه الصحيح . إننى أحذر المجتمع الدولى من هذا الوفد، أن يسمع شيئًا من كلامه، وأناشد الاتحاد الدولى للقضاء أن يسأل هذا الوفد عن المذابح القضائية التى أُعِدَّت للقضاةِ من تيار الاستقلال وحركة قضاة من أجل مصر؛ تصفيةً لحساباتٍ سياسيةٍ بينهم وبين الزند والانقلابيين؛ لأنهم لم يخونوا ضمائرهم فى وصف ما حدث فى الثالث من يوليو من أنه انقلابٌ مجرَّمٌ قانونًا.