كلما مرَّت هذه الذكرى المباركة التى تُثبِّت المؤمنين وتُزَلْزِل أقدام المنكرين، زاد ألمنا لحال المسلمين اليوم الذين ينتظرون وعد الآخرة لعبادٍ لنا أولى بأس شديد؛ ليدخلوا المسجد كما دخلوه أوَّل مرة؛ ليحمّلوا غيرهم فريضة الجهاد وينسلخوا هم عنها "وما ترك قوم الجهادُ إلا ذلُّوا"، وها نحن نرى ذلَّ المسلمين وعُلُوَّ اليهود الملاعين {وإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [محمد]. وها أنا ذا أقرأ الآن خبرًا يزيد المسلمين حسرة وألمًا، وأقول: يا حسرة على العباد.. يقول الخبر: (70 مجندة إسرائيلية يقتحمن باحات الأقصى بلباسهنّ العسكرى، بالإضافة إلى عشرة من عناصر المخابرات الإسرائيلية). وأصحاب إسرائيل والمنفِّذون لمخططهم لا يشغلهم ذلك العدوان على مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا معراجه، إنما يشغلهم أن حماس شاركت فى عملية سيناء، فهى بالنسبة لهم العدو الحقيقى الذى يجب عليهم أن يُشَوِّهوا جهادها وتضحية رجالها، فأى مصيبة أعظم من هذه المصيبة أن يصبح المجاهدون فى سبيل الله المدافعون عن مسرى رسول الله هم العدوّ فاحذرهم؟!!! أرأيت نوع الحرب التى يخوضها أصحاب المشروع الإسلامى؟! إنها حرب عقائد، حرب هوية تفرز الصادقين من الكاذبين، {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]؛ حتى لا ينال شرف المشاركة فى الجهاد حتى النصر إلا الذين هم أهلٌ له {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51)} [غافر]. إن مقاييس النصر عندنا ليست بالتفوُّق المادى، ولكنها بعد الأخذ بالأسباب قوة الإيمان قالها أبو بكر الصديق رضى الله عنه للجنود وهم مُتوجِّهون للقتال: "إنكم لن تنتصروا على عدوِّكم إلا بقدر قربكم من الله وبعدهم عنه"؛ ولذلك قال القرآن لجنود الحق وهم متوجهون للقتال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وأَطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال]. من أجل ذلك قالها عمر بن الخطاب رضى الله عنه للجنود: "إن أخوف ما أخاف عليكم الذنوب فإن ذنوب الجيش أخوف عليه من عدوه". ولذلك لا تَسَل عن شجاعة وتضحيات الجند بقدر ما تسأل عن أنموذجه الأخلاقى الذى كان سببًا فى فتح قلوب العباد قبل البلاد. والمتأمِّل فى آيات الإسراء والمتدبِّر لها يجد فيها معانى إيمانية ومفاهيم إسلامية عظيمة يجب على المسلم أن يتدبَّرها عبادة لله سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد]، فهى تبدأ ب{سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى} [الإسراء: 1]. تنبيه للمسلم كى لا يخضع لعقله ما حدث من انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بالبراق، ثم عروجه إلى سدرة المنتهى، وصلاته بالنبيين الذين فارقوا الحياة الدنيا وزعامته لهم، ورؤياه للذين يُعَذَّبون عذابًا شديدًا لأكلهم الرِّبا واقترافهم الزنى، وأصحاب الغيبة والنميمة، وغير ذلك من أصحاب المحرمات التى ارتكبوها ويُعذَّبون بسببها، هذه كلها غيبيَّات نؤمن بها؛ لأنها وحى يُوحَى؛ لنكون من الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، فلا نخضعها لعقولنا ولا نقيسها بمقاييسنا الدنيوية، فهو سبحانه مُنزَّه عن الشَّبه والمثيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)} [الشورى]، وهو سبحانه إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، فإذا أعيتك مسألة وعجز العقل عن إدراك كيفية حدوثها أو حدمته فقل "سبحان الله"، فهو سبحانه القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير {اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ومِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق]. والدارس لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أن ما حدث قبل الإسراء من إيذاء للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لدرجة وضع السفهاء سلى الجزور فوق ظهره وهو ساجد، مما دفع ابنته فاطمة رضى الله عنها أن تزيل هذه النجاسات عنه صلى الله عليه وسلم، وتدعو عليهم وهو مستمر فى اتصاله بربه ساجدًا، فضلاً عن إيذاء أصحابه بلال وعمار وصهيب وياسر وسميَّة، ونسيبة وأسماء وغيرهم الكثير...، كل ذلك ليعى أصحاب الدعوات معالم المنهج وعلامات الطريق الصحيح، فلا مفرَّ من الإيذاء والاستهزاء والسخرية، ثم الاعتداء والتنكيل والقتل، ويوم يمرُّ المسلم بهذه المراحل يبدأ طريق أصحاب الدعوات {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) ولَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت].. إنه طريق التمحيص وطريق التمييز وطريق الشُّهَدَاء وطريق النصر المبين. لقد شاءت سنة الله تعالى ألا يؤيد الله المؤمنين ويحقِّق لهم النصر إلا إذا تحققت فيهم العبودية، ووصلوا إلى هذه المنزلة السامية، وتأمَّل قول الله {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه} [الإسراء: 1]، فما كان الإسراء الآية التى مسحت على صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وغسلت قلبه إلا بهذه العبودية، ومن هنا كان على المسلمين قبل أن يسألوا لِمَ لم يتحقق نصر الله؟ وأين آياته التى تنزل على المؤمنين نصرًا؟ ولِمَ هو متأخرٌ عنا؟ عليهم أن يسألوا أنفسهم أولاً؛ هل حقَّقوا العبودية لله ربِّ العالمين حتى يُنزِّل آياته ويؤيدهم بجنودٍ لم يروها، وانتصار ينتظرونه؟ {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مُّحْمُودًا (79) } [الإسراء]. حق للمسلمين اليوم أن يطيلوا ركوعهم وسجودهم وقراءتهم كتاب الله، ويُلِحُّوا على الله بالدعاء، ويكونوا إخوانًا متحابين متراصِّين كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا، لا يعرفون اختلافًا ولا تفرقًا، فلا يكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا، فلا يعرفوا تباغضًا ولا تحاسدًا ولا تنازعًا، وتصبح قلوبهم قلبًا واحدًا فيستوى صَفّهم، ويصطفى الله من بينهم من يُجدِّد لهذه الأمة أمر دينها، ويومها تنتهى أسطورة أمريكا التى لا تُهْزم والكيان الصهيونى الذى لا يقهر؛ لأن الحجر والشجر يومئذ سينطق وينادى على المسلم "يا مسلم.. يا عبد الله.. تعالَ خلفى يهودى فاقتله"، أمَّا أن نُعِدّ أنفسنا من الناحية المادية فحسب، ونتطلع إلى قوة السلاح وأنواعه ويشغلنا كى نلحق بركب السلاح الذرِّى والنووى فلن نستطيع أن نلحق بهم، فقد أسرعوا هم الخطى إليه وانتصروا على المادة، وإن كنا مطالبين بذلك أخذًا بالأسباب، ولكن قبل الإعداد المادى لا نُهْمل ما أهملوه، ألا وهو الإيمان الذى يملأ القلوب ويثبت الأقدام، إنه السلاح الذى لا يُقْهَر، والقربى إلى الله هى التى تُعِزّ المسلمين وتجعلهم الأعلين {ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران]. فإذا فعلنا ذلك يومها سترتعد الفرائص، ويُقْذف الرُّعْب فى القلوب مسيرة شهر، وما ارتعاد اليهود ومن على شاكلتهم اليوم منا ببعيد من هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى، وضَحُّوا بأرواحهم وأصبحت أجسادهم قنابل تفتك بأعداء الله؛ ذلك لأنهم {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)} [الأحزاب]. إنها العبودية لله عز وجل ابتداءً والعبودية لله انتهاء.. بها تتحقَّق العِزَّة فى الدنيا، وصحبة النبيِّين والصِدِّيقِين والشُّهَدَاء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا فى الآخرة.