يحتفل المسلمون الليلة بذكرى الإسراء والمعراج، التى تعد -بحق- نقلة نوعية فى تاريخ الإسلام، وتحولا كبيرا من حال المحنة والملاحقة والاضطهاد إلى حال المنحة والفضل من الله.. لقد منّ الله على رسوله وعلى المؤمنين فى هذه الليلة، فصار للنبى صلى الله عليه وسلم الإمامة العظمى على سائر الأنبياء والمرسلين، وللمؤمنين الخيرية على سائر الأمم التى أخرجت للناس، فلله الحمد من قبل ومن بعد.. إن الانتقال من الأرض إلى السماء، لا يعنى -فقط- انتقالا جسديًّا بحول الله تعالى من السفلى إلى العليا، إنما يعنى -فى الأساس- الترقى من طين الأرض، وأوحالها، وظلامها وجهالة أهلها، إلى مدارج الكمال، والعلو والتنزه عن أخطاء البشر وطغيانهم واستكبارهم؛ ما يدعونا إلى التعلق -دائمًا- بالسماء؛ إذ فيها الانسجام التام مع الفطرة، وفيها التخلص من أوهاق الدنيا وأرجاسها، وهى الملاذ والمخلص من ظلم الظالمين وكيد الكائدين وعنفوان المتجبرين. وعلى أهل الأرض -كذلك- أن يثقوا بمولاهم تمام الثقة، فهو الرحمن الرحيم، مجيب المضطرين، المنجى من كل مكروه وسوء، وأن يكونوا على يقين أن مع العسر يسرًا، وأن مع الصبر نصرًا، وأن بعد الليل فجرًا، وأن الله معز دينه ومعلى رايته، وأنه لا يخزى أبدًا من عبده وأطاعه وولى وجهه شطر الذى فطر السماوات والأرض حنيفًا ولم يك من المشركين. لقد اجتمعت على النبى صلى الله عليه وسلم قبل الحادثة هموم تنهد لثقلها الجبال؛ ماتت من كانت تواسيه وتخذل عنه، ورحل من كان يحمى ظهره، فتردد فى القلب صدى من حزن وقلق، حتى قال المعصوم: (إن لم يكن بك غضب علىَّ فلا أبالى ولكن عافيتك هى أوسع لى) فكانت إجابة السماء بردًا وسلامًا على هذا القلب الحبيب؛ إذ لم يذهب الحزن فقط، بل أذن بملء القلب رضًا ويقينًا وسكينة "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" [الإسراء: 1]، فكانت جائزة ربانية كبرى، ووسامًا علويًّا يشهد به الدهر، وما ذاك إلا لأن صاحبه صبر وغفر، وعفا وأصلح، واحتمل الهوان لسنين فى سبيل إتمام مكارم الأخلاق. إن كل مسئولية فى قيادة الأمم وتعبيد الشعوب لله، تستلزم تمحيصًا شديدًا، وتمييزًا بين الناس، لمعرفة الخبيث من الطيب، والصالح من الطالح، فيلقى الله على كاهل الممحصين أحمالا ثقالا، كى يصيروا أشد وطئًا وأقوم قيلا، وكيلا يحبطوا أو يقنطوا أو ييأسوا عندما تدلهم الأمور أو تبرق أمام أعينهم سيوف الأعداء، فهم -بفضل الله- الأكثر تصديقًا لحديث السماء، الأقل اكتراثًا بمخططات ومكائد الأعداء، فالقيادة والريادة لا تتمان -إذًا- خبط عشواء، أو بين يوم وليلة، بل يسبقهما تكوين وإعداد، وتأهيل وإصقال، فلأجل إمامة الأنبياء والترقى فى السماء بقى محمد صلى الله عليه وسلم اثنى عشر عامًا يكابد المحن، ويواجه العوائق ويتخطى الحواجز والسدود، فكان مشهد إمامته الرسل فى رحاب الأقصى حفل تكريم وتنصيب على الطريقة الربانية بعد طول تربية ومعاناة. والطائعون لربهم، الفاقهون لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، يستهينون بكل مكيدة، ويهزءون من كل مكر يدبره خصوم أو معادون؛ إذ الأيام دول، والله يقلب الليل والنهار، ولا يرضى لعباده الكفر، ولن يجعل للكافرين ولا للفاسقين ولا للظالمين على المؤمنين سبيلا، ومهما طالت سنون العنت والإيذاء فإن فرج الله قريب وإن نصر العزيز لآت، فما يعجزه بشر وما يعطله مخلوق، كائنًا من كان. وإذا كانت ثمة معجزة لنبى الله فى الإسراء والمعراج، فإن لأولياء الرحمن كرامات ونور يمشون به فى الناس، فلا خوف -إذًا- عليهم ولا هم يحزنون، ولكم مرت على الدعاة محن وهبت عليهم موجات من أعاصير الطغاة، فكان الجبار هو كاشف الهم، مزيل الكرب، مزلزل أقدام المستبدين، كيف لا والمؤمنون يأوون إلى ركن شديد، ويستندون إلى ذى الحول والطول والقوة المتين؟!، إنه الله الحق الذى يملى للظالمين حتى يغتروا بأنفسهم، فيأخذهم حينها على غرة ويعلمون -ولات حين مناص- أن كيد الله متين. لتكن الذكرى دافعًا لتعويد النفس على الالتجاء إلى الله، وترويضها على طاعته، ومحبته، وتفويض الأمور إليه؛ إذ لا ملجأ منه إلا إليه، وألا نخشى أحدًا إلا الله، وألا نهتدى إلا بهديه، وأن نكون على ثقة -دائمة- بأن العاقبة للمتقين. ولتكن الذكرى مناسبة للبحث عن علاجات لتلك الأمراض الاجتماعية المتفشية والتى رأى النبى صلى الله عليه وسلم نتائجها فى معراجه رأى العين، كالغيبة، والنميمة، وأكل أموال اليتامى، وأكل الربى، والزنى، وغيرها من الداءات الفاتكة التى تقصف رقاب الأمم وتخرب عامرها وتسلط عليها من لا يخاف الله ولا يرحمها. ولتعلم الأمة أن الجهاد فريضة ماضية إلى يوم القيامة، هكذا أراد الله لهذه الأمة ألا تدع القتال حتى تكون كلمة الله هى العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، ما يعنى أن حياة المسلم خالية من الدعة والركون والبطنة، يفعل هذا فى الدنيا فيكون مدخرًا له عند ربه حسنات مضاعفة يوم الحساب.. مر النبى صلى الله عليه وسلم فى معراجه على قوم يزرعون ويحصدون فى يوم، كلما حصدوا عادوا كما كان، فأخبر جبريل: «هؤلاء هم المجاهدون فى سبيل الله تضاعف لهم الحسنات بسبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شىء فهو يخلف».