صُنَّاع التاريخ هم الرجال، ولكن أى رجال هم؟ وقادة الدعوات بشر، ولكنهم ليسوا أى بشر، رجال ولكنهم عمالقة، وبشر ولكنهم جبال، ولهذا كنت فى دراستى للتاريخ أقف أمام أبطاله الشم وصُنّاعه العمالقة، فأغض الطرف، راهب الفكر، راصدا للشموخ الذى يسرى فى أوصال الزمن، فإذا تجولت فى ربوع ذلك الزمان لفتنى وبقوة، وشدتنى وبسطوة تلك الدعوات العظام التى كانت تضع بصماتها وبإبهار على جبين ذلك التاريخ، وتمسك بدفته وباقتدار لتُغَيِّر مساره وتعدِّل من خطوه، فأسائل نفسى كثيرًا: كيف غيرت هذه الدعوات الأمم ونبهت الشعوب، وعالجت الأوبئة النفسية والفكرية، ونفخت فى الركام البشرى والغثاء الإنسانى حتى استوى على عوده، وأينع غرسه وتفتحت أزهاره؟ كيف غالبت هواجس العادات وكوابيس التقاليد، وعَدَّلت السلوك وأضاءت مصابيح النفوس؟ كيف أخرجت النهضات من رحم البيئات الضالة، ومن بين مخالب الطواغيت المفترسة، وأنياب الوحوش الكاسرة، وربت رجالا رادوا الكفاح الشاق، وقادوا المسيرة الصعبة، ورفعوا المعاناة وسط الأيام العجاف، والليالى الحوالك، والحوادث الضروس. إن الليالى للأنام مناهلٌ تُطوى وتُنْشر دُونها الأعمارُ فَقِصارهن مع الهموم طويلةٌ وطوالهن مع السرور قصَارُ فمن يا تُرى يقود هذه الدعوات السامقة ويتقدم هذه الرسالات الباعثة؟ هل يقودها إلا عمالقة وعباقرة، صنعهم الله على عينه، وربتهم المقادير حسب إرادته، لهم فطر وهمم ونفوس وبصائر وعزائم تستطيع صياغة المجد، وبعث الفضيلة، وتغيير الطباع، وقيادة الأمم بالمعروف والإحسان. وما البطولة إلا النفسُ تدفعها فيما يُبلغها حمدًا فتندفعُ وهل مررت بأقوام كفطرتهم من عهد آدم لا خبثٌ ولا طَمَعُ ومن عجيب لغير الله ما سجدوا على الفَلا ولغير الله ما ركعوا كيف اهتدى لهم الإنسان وانتقلت إليهم الصلوات الخمس والجُمعُ فإذا تأملت فى الحركات الإصلاحية الكبرى فى العصر الحديث، والتفت إلى البعث الإسلامى المستنير الذى ينفلق إصباحه هنا وهناك، بعد ليل طويل، وظلام حالك مر على تلك الأمة، وبعد غفوات وغفوات فى ظلال استعمار وقهر واستعباد، أخذ البلاد والعباد بعيدًا عن هويتهم، فقامت مبادئ ودعوات، وظهرت نظم وفلسفات، وتأسست حضارات ومدنيات ونافست هذه كلها فكرة الإسلام فى نفوس أبنائها، واحتلت قلوبهم وعقولهم ومشاعرهم، وتهيأ لها من أسباب الإغواء والإغراء والقوة والتمكين ما لم يتهيأ لغيرها من قبل، وإذا نظرنا إلى هؤلاء العمالقة الذين غيروا الفكر وأطلعوا الفجر، نجد أن الله اختارهم جميعا، والأمم أخرجتهم بمقاييس، وولدتهم أمهاتهم على قدر. فمثلا ولد أردوغان فى 26 فبراير 1954 فى إسطنبول. يعود إلى أصله إلى مدينة طرابزون، أمضى طفولته المبكرة فى ريزة على البحر الأسود، ثم عاد مرة أخرى إلى إسطنبول وعمرهُ 13 عامًا. ونشأ أردوغان فى أسرة فقيرة، فقد قال فى مناظرة تلفزيونية مع دنيز بايكال رئيس الحزب الجمهورى ما نصه: "لم يكن أمامى غير بيع البطيخ والسميط فى مرحلتى الابتدائية والإعدادية؛ كى أستطيع معاونة والدى وتوفير قسم من مصروفات تعليمى؛ فقد كان والدى فقيرًا". أتم تعليمه فى مدارس "إمام خطيب" التعاليم الدينية، ثم فى كلية الاقتصاد والأعمال فى جامعة مرمرة، ومن الغريب أن العمالقة لا يستنكفون الحديث عن أسرهم الفقيرة، ولا يقفون عند ما يظنه الناس شيئا معيبا وهو فى حقيقته مفخرة للعظماء الذين استطاعوا مقاومة الضغوط الهائلة التى تمنع المهازيل من الصعود للقمم. انضم أردوغان إلى حزب الخلاص الوطنى بقيادة نجم الدين أربكان فى نهاية السبعينيات، لكن مع الانقلاب العسكرى الذى حصل فى 1980، تم إلغاء جميع الأحزاب، وبحلول عام 1983 عادت الحياة الحزبية إلى تركيا وعاد نشاط أردوغان من خلال حزب الرفا، خاصةً فى محافظة إسطنبول. وبحلول عام 1994 رشح حزب الرفاه أوردغان إلى منصب عمدة إسطنبول، واستطاع أن يفوز فى هذه الانتخابات، خاصةً مع حصول حزب الرفاه فى هذه الانتخابات على عدد كبير من المقاعد. وفى عام 1998 اتُّهم أردوغان بالتحريض على الكراهية الدينية تسببت فى سجنه ومنعه من العمل فى الوظائف الحكومية ومنها الترشيح للانتخابات العامة بسبب اقتباسه أبياتًا من شعر تركى فى أثناء خطاب جماهيرى يقول فيه: مساجدنا ثكناتنا قبابنا خوذاتنا مآذننا حرابنا والمصلون جنودنا هذا الجيش المقدس يحرس ديننا لم تثنِ هذه القضية أردوغان عن الاستمرار فى مشواره السياسى، بل نبهته هذه القضية إلى كون الاستمرار فى هذا الأمر قد يعرضه للحرمان للأبد من السير فى الطريق السياسى كما حدث لأستاذه نجم الدين أربكان فاغتنم فرصة حظر حزب الفضيلة لينشق مع عدد من الأعضاء منهم عبد الله غول وتأسيس حزب العدالة والتنمية عام 2001، منذ البداية أراد أردوغان أن يدفع عن نفسه أى شبهة باستمرار الصلة الأيديولوجية مع أربكان وتياره الإسلامى الذى أغضب المؤسسات العلمانية مرات عدة، فأعلن أن العدالة والتنمية سيحافظ على أسس النظام الجمهورى ولن يدخل فى مماحكات مع القوات المسلحة التركية، وقال: "سنتبع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذى رسمه أتاتورك لإقامة المجتمع المتحضر والمعاصر فى إطار القيم الإسلامية التى يؤمن بها 99% من مواطنى تركيا". فاز رجب طيب أردوغان برئاسة بلدية إسطنبول عام 1994 وعمل على تطوير البنية التحتية للمدينة وإنشاء السدود ومعامل تحلية المياه لتوفير مياه شرب صحية لأبناء المدينة، وكذلك قام بتطوير أنظمة المواصلات بالمدينة من خلال أنشطة شبكة مواصلات قومية وقام بتنظيف الخليج الذهبى (مكب نفايات سابقا) وأصبح معلما سياحيا كبيرا، وبهذه الطريقة استطاع أردوغان تحويل مدينة إسطنبول إلى معلم سياحى كبير، لا يمكن أن أصف ما قام به إلا بأنه انتشل بلدية إسطنبول من ديونها التى بلغت مليارى دولار إلى أرباح واستثمارات وبنمو بلغ 7%، بفضل عبقريته ويده النظيفة وبقربه من الناس لا سيما العمال ورفع أجورهم ورعايتهم صحيا واجتماعيا. خلال فترة رئاسته بلدية إسطنبول حقق أردوغان إنجازات للمدينة، الأمر الذى أكسبه شعبية كبيرة فى عموم تركيا، لكن هذه الشعبية لم تشفع له حينما خضع لإجراءات قضائية من قبل محكمة أمن الدولة فى عام 1998 انتهت بسجنه بتهمة التحريض على الكراهية الدينية ومنعه من العمل فى وظائف حكومية ومنها طبعا الترشيح للانتخابات العامة. خاض حزب العدالة والتنمية الانتخابات التشريعية عام 2002 وحصل على 363 نائبا مشكلا بذلك أغلبية ساحقة. لم يستطع أردوغان ترأس حكومته بسبب تبعات سجنه وقام بتلك المهمة عبد الله غول. تمكن فى مارس عام 2003 من تولى رئاسة الحكومة بعد إسقاط الحكم عنه. بعد توليه رئاسة الوزراء، عمل على الاستقرار والأمن السياسى والاقتصادى والاجتماعى فى تركيا، وتصالح مع الأرمن بعد عداء تاريخى، وكذلك فعل مع اليونان، وفتح جسورا بينه وبين أذربيجان وبقية الجمهوريات السوفيتية السابقة، وأرسى تعاونا مع العراق وسوريا وفتح الحدود مع عدد من الدول العربية ورفع تأشيرة الدخول، وفتح أبوابا اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية مع عدد من البلدان العالمية، وأصبحت مدينة إسطنبول العاصمة الثقافية الأوروبية عام 2009، أعاد لمدن وقرى الأكراد أسمائها الكردية بعدما كان ذلك محظورا، وسمح رسميا بالخطبة باللغة الكردية. كان موقف أردوغان موقفًا "حازمًا" ضد خرق إسرائيل للمعاهدات الدولية وقتلها للمدنيين فى أثناء الهجوم الإسرائيلى على غزة، فقد قام بجولة فى الشرق الأوسط تحدث فيها إلى قادة الدول بشأن تلك القضية، وكان تفاعله واضحًا مما أقلق إسرائيل ووضع تركيا فى موضع النقد أمام إسرائيل، وقال رجب أردوغان: "إنى متعاطف مع أهل غزة". وفى 29 من يناير غادر أردوغان منصة مؤتمر دافوس احتجاجًا على عدم إعطائه الوقت الكافى للرد على الرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز بشأن الحرب على غزة بعد أن دافع الرئيس الإسرائيلى عن إسرائيل وموضوع صواريخ القسام التى تطلق على المستوطنات، وتساءل بصوت مرتفع وهو يشير بإصبعه عما كان أردوغان سيفعله لو أن الصواريخ أُطلقت على إسطنبول كل ليلة، وقال أيضًا: "إسرائيل لا تريد إطلاق النار على أحد لكن حماس لم تترك لنا خيارًا". رد أردوغان على أقوال بيريس بعنف وقال: "إنك أكبر منى سنًا ولكن لا يحق لك أن تتحدث بهذه اللهجة والصوت العالى الذى يثبت أنك مذنب". وتابع: "إن الجيش الإسرائيلى يقتل الأطفال فى شواطئ غزة، ورؤساء وزرائكم قالوا لى إنهم يكونون سعداء جدًا عندما يدخلون غزة على متن دبابتهم"، ولم يترك مدير الجلسة الفرصة لأردوغان حتى يكمل رده على بيريز، فانسحب رئيس الوزراء التركى بعد أن خاطب المشرفين على الجلسة قائلا: "شكرًا لن أعود إلى دافوس بعد هذا، أنتم لا تتركوننى أتكلم وسمحتم للرئيس بيريز بالحديث مدة 25 دقيقة وتحدثت نصف هذه المدة فحسب", وأضاف أردوغان فى المؤتمر الذى عقد بعد الجلسة إنه تحدث 12 دقيقة خلال المنتدى كما تحدث الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى بدوره 12 دقيقة، غير أن بيريز تحدث 25 دقيقة، ولما طلب التعقيب عليه منعه مدير الجلسة. احتشد الآلاف ليلًا لاستقبال رجب طيب أردوغان بعد ساعات من مغادرة مؤتمر دافوس حاملين الأعلام التركية والفلسطينية ولوحوا بلافتات كتب عليها "مرحبا بعودة المنتصر فى دافوس" و"أهلا وسهلا بزعيم العالم"، وعلقت حماس على الحادث بالقول "على الحكام العرب أن يقتدوا به". منحته السعودية جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام لعام (2010 - 1430ه)، وقال عبد الله العثيمين الأمين العام للجائزة: إن لجنة الاختيار لجائزة خدمة الإسلام -التى يرأسها فى ذلك الوقت ولى العهد السعودى الأمير سلطان بن عبد العزيز- اختارت أردوغان لقيامه بجهود بناءة فى المناصب السياسية والإدارية التى تولاَّها، "ومن تلك المناصب أنه كان عمدة مدينة إسطنبول حيث حقَّق إنجازات رائدة فى تطويرها. وبعد أن تولَّى رئاسة وزراء وطنه تركيا أصبح رجل دولة يشار بالبنان إلى نجاحاته الكبيرة ومواقفه العظيمة؛ وطنيًا وإسلاميا وعالميًا". وقد تم منحه شهادة دكتوراه فخرية من جامعة أم القرى بمكة المكرمة فى مجال خدمة الإسلام بتاريخ 23-3-1431ه. كما تسلم رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان يوم الاثنين 29 نوفمبر 2010 جائزة القذافى لحقوق الإنسان خلال الحفل الذى تنظمه مؤسسة القذافى العالمية لحقوق الإنسان بمسرح فندق المهارى بطرابلس - ليبيا. وبدأت مراسم الحفل بكلمة عضو المكتب التنفيذى ورئيس لجنة الترشيحات للجائزة الدكتور أحمد الشريف، تليها كلمة رئيس اللجنة الشعبية الدولية لجائزة القذافى، ليتم بعدها تسليم الجائزة والتى تشمل قراءة براءة الجائزة باللغة العربية والتركية والإنجليزية. يذكر أن أردوغان زار ليبيا للمشاركة فى القمة الإفريقية الأوروبية الثالثة بصفته "ضيف شرف" بدعوة رسمية من معمر القذافى وتعرض لنقد لتقبله الجائزة ورفض منتقدين طالبوه بالتنازل عنها. فى 23 نوفمبر 2011 قدم أردوغان خلال اجتماع لحزب العدالة والتنمية فى أنقرة اعتذارا تاريخيا باسم دولة تركيا حول الأحداث المأساوية التى وقعت بين سنوات (1936- 1939) فى منطقة درسيم، التى ارتكبتها الحكومة التركية آنذاك ممثلة بالحزب الجمهورى بحق الأكراد العلويين فى نهاية الثلاثينيات من القرن الماضى، وقوبل هذا الاعتذار بترحيب شديد من قبل رئاسة إقليم كوردستان والتى رحبت بتصريحات أردوغان، وقالت إن هذا التصريح يدفع بعملية الانفتاح الديمقراطى فى تركيا إلى مرحلة أكثر تقدما. وهكذا يستمر الرجل فى تعملقه ورفعته وقد انهدت من حوله السفوح الهابطة وانطلق فى سماء الشرق والغرب متعملقا ومنطلقا كالصاروخ اجتماعيا واقتصاديا بما أبهر الجميع ليضرب المثل الحى والنموذج الفريد للأجيال، وليكون معلما لأرجاس فقدت عزيمتها، وبددت رجولتها، وأضاعت حلومها، والله نسأل أن يوفق ويعين على الخير.. آمين.