هذه مقدمة لكتاب للأستاذ أنس الحجابى وجدت فيها مشاعر صادقة فأحببت أن أنقلها اليكم كى تستشعروا المشاعر الصادقة بين الأستاذ وتلميذه.. يقول فيها: أستاذى وإمامى ومرشدى: فى موكب النور، وعلى أضواء المعرفة.. قطعت طريقى إليك فانتهيت إلى أبواب الحكمة، ونفذت إلى أسرار الوجود. ومن ينبوع إيمانك المتفجر.. قبست النور الذى أضاء فى معالم الحياة، وبصرنى بمراميها فسرت بهدى القرآن، فى ضوء الإيمان مطمئنا إلى سلامة الوصول. وبهذه الثروة الطائلة من أسرار الحكمة وحقائق الإيمان عشت مباهيًا غنيًا سعيدًا.. وسأعيش بها أبدًا عزيزًا غنيا سعيدًا.. فلقد علمتنى أن حياة الرجولة (خلق وإيمان) وأن حياة المؤمن: عزة وقناعة، وعلو بهذا الإيمان. ربيتنى على هذه الحقيقة من قوله تعالى: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) ما تحققتم بذاك الشرط الأساسى وقيوده، وما التزمتم بتبعاته وبنوده.. أعنى: إن كنتم مؤمنين. وبتوجيه هذه التربية، وتلك المعرفة.. ذقت حلاوة الإيمان، فعشت به غنيا كريمًا، مطمئن القلب ساكن النفس فى غير بطر ولا غرور. إذ تلقيت منك أن من مزايا هذا الإيمان: خفض الجناح للمؤمنين، وأن من سجايا المؤمنين ما داموا حقًا مؤمنين أنهم ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) وأنه لا إيمان إلا بالتحقق بهذه الخلال، فحال المؤمن مع المؤمنين تطبيق لقول من قال: إليكم تذل النفس وهى عزيزة وليست تذل النفس إلا لمن تهوى تعلمت منك فيما تعلمت: أن الحر يأبى أن يعيش على المجد الكاذب المستعار، لأنه يفضح صاحبه ويزرى به، ولأنه يخل بحقائق رجولته، وينحط بتقدير قيمته، لكنما يعيش رجل الإباء ويحيا أبدًا على المجد الصادق، مجد النفس والحقيقة، الذى يستمده من خلقه وإيمانه، ويبنيه بإنتاجه وجهاده، ويناديه به الناس علمًا لازمًا، ولقبًا مستحقا، وأن الذى ينتحل لنفسه المجد الموهوم، ويعيش به عالة على الناس، إنما هو طفيلى عاجز، يشعر بنقص نفسه، فيحاول إتمام هذا النقص من ثروة غيره، أو على حساب الجماعة التى يعيش فيها، فهو لص معتد أثيم، وهو بعد ذلك غرّ أحمق، يخدع نفسه قبل أن يخدع الناس، ويعيش على الوهم والسراب! تعلمت منك فيما تعلمت: أن المؤمن الصادق له الصدارة بإيمانه؛ لأنه بأحكام هذا الإيمان يعيش فى معنى عملى تطبيقى من قولهم: ونحن أناس لا توسط عندنا لنا الصدر دون العالمين أو القبر تهون علينا فى المعالى نفوسنا ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر فبهذه العقيدة العملية، وبهذه الفضيلة التطبيقية عاش المؤمنون سادة أعزة، وبأحكامها تعاملوا، فكانت لهم الصدارة من غير إخلال بقانون التفاضل العام، أو التنافس المشروع فى مجتمعهم النموذجى الخاص. ومن أجل ذلك ادّخر الله العزّة للمؤمنين. ومن أجل ذلك أيضًا خلد المؤمنون الصادقون بإيمانهم رغم أنف المكابرين الكارهين المبطلين، خلدوا الخلود الباقى بتضحياتهم وجهادهم الذى سجله التاريخ فى صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، وسادوا بآثارهم السارية فى الآفاق ضياء للناس وهدى وذكرى. تعلمت منك فيما تعلمت: أن الناس مهما لفوا وداروا، ومهما أمعنوا فى الكيد والضلال لنكران حق المؤمن فى السيادة والخلود، فليسوا ببالغين شيئًا ما دام هو صادق الإيمان، جامعًا لمؤهلات المؤمنين وصفاتهم، لأن الحقائق الخالدة لا ينال منها العدم، ولا يقربها البلى أو القدم، وليس أبقى ولا أخلد من حق يستمد وجوده، ويأخذ خلوده من الحقيقة الخالدة الكبرى، من الله الحق المتفرد بالبقاء، ذى القوة والجبروت، فإن أنكروا بعد ذلك: فما ضرّ الورود وما عليها إذا المزكوم لم يطعم شذاها ؟ تعلمت منك فيما تعلمت: أن كل (عملة) فيها الزائف والصحيح، إلا عملة (الإيمان) ذلك لأنه ليس هناك إيمانان: إيمان وظيفة، وإيمان حقيقة، لكنما هو إيمان واحد لا يتعدد، ولا يدور مع الأهواء والمطامع والشهوات. وما كان الإيمان يومًا دعوى ولا وهمًا، ولا انتحالًا ولا زعمًا، إلا فى أدمغة أهل الهوى وطلاب المنفعة، أما المؤمنون الصادقون فقد عرفوا الإيمان من المؤمن الأول بحقيقته التى لا تحريف فيها (ما وقر فى القلب وصدقه العمل)، وعلى هذه الحقيقة عاشوا فعزوا، وسادوا، وخلدوا. تعلمت منك فيما تعلمت: أنه مهما حاول الدخلاء الأغبياء أن يتشبهوا بأهل الإيمان ويقلدوهم أو يزاحموهم فى قمة أمجادهم التى تسنّموها بإيمانهم، ومهما حاولوا أن يقلبوا الحق باطلًا للانتقاص من قدر المؤمن بتشويه صحيفته، أو التقول عليه.. مهما جدوا فى هذا السبيل فإنهم إلى بوار، والويل لهم حينئذ من غضب الله ونقمته، فإن الله تعالى يغار أن تنتهك محارمه، أو تستباح حرمات أوليائه، وعهود الناس وحقوقهم وكراماتهم أكرم على الله من أن تستباح ولا تثأر لها الإرادة العليا، المهيمنة على القوى الكونية جميعًا... إرادة الله العلى القدير. وتعلمت منك: أن المؤمنين بهذه الغيرة الربانية على حرماتهم فى حراسة عليا من عناية الله وتأييده، وفى أمل فسيح برحمته الواسعة، وفى منعة قوية بعدالته المطلقة التى لا يدخل عليها تزييف، ولا يتناولها تحريف، فهى لا تتقيد بأوضاع أهل الدنيا وأغراضهم. وبهذه الحقيقة كان النصر للإيمان.. بهذه الحقيقة وحدها.. عاش المؤمنون على ثقة من الفوز وكسب المعارك. فإذا رأينا المؤمن قد استضعف يومًا.. فإلى حين.. وذلك هو البلاء الذى يعقبه النصر المبين، وإلا فإن استطال أو استكان هو إليه صار ذلا، وكان ذلك هو الفيصل بين دعوى الإيمان وحقيقة الإيمان، فصاحب الأولى شقى مهان.. ورجل الثانية سعيد بنعمة الإيمان، وهو بها فى سكون واطمئنان، وفى روح وريحان. ومنتهى هذا الطريق ومؤداه إلى نتيجة واحدة.. هى نصر المؤمنين، إذا ( صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ )، فما كان الله ليضيع إيمانهم، وإن الله ليدافع عن الذين آمنوا، ( وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ)..؟ تعلمت منك فيما تعلمت: أن الإيمان الصادق يلتهب ليضىء لا ليحرق، وليبنى لا ليهدم.. فما كان الإحراق أبدًا من طبع المؤمنين، ولا كان الهدم من سجايا الأشراف الأحرار المصلحين. فالشرف والإيمان: توأمان.. ما تجد منهما إلا غادر نذل جبان. ومثل المؤمن فى خلاله: كمثل كلمة طيبة، أصلها ثابت وفرعها فى السماء، تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها. ولا يستويان أبدًا: (طيب وخبيث).. (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا).. فإذا أعرض الذين استحبوا العمى على الهدى، حسدًا من عند أنفسهم، من بعد ما تبين لهم أنه الحق، فما لنا فيهم من حيلة.. ( أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْى وَمَنْ كَانَ فِى ضَلالٍ مُبِينٍ)؟ وتعلمت منك: أن من أعجب الأعاجيب فى هذا الزمان.. أن يستكثر الحاسدون المتنطعون على المؤمن إيمانه، فإنهم لا يعرفون ربح هذه التجارة الربانية، ولا يتصورون أن يعيش إنسان لله وللمجتمع، ولغير ما ألفوه من كسب ومنفعة، وتحصيل جاه وشهرة.. إنهم يجهلون تكاليف الإيمان وتبعاته ولا يعرفونه إلا غنيمة وكسبًا، والمؤمن يسمو بنفسه عن هذه الدنايا، وهو بتجرده لغايته وباعتماده على ربه لا ينظر إلى وسائل الناس ولا يعرفها، لأنه بمعزل عنها.. فسبيله إلى المجد غير سبيلهم، ونظرته إليه غير نظرتهم، ولا يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون. وبعد.. فهذه مناجاة كنت قد توجهت بها إلى أستاذى فى حياته لمناسبة من المناسبات، فلما قرأها رضى الله عنه، نادانى وكان معه الأخ الأستاذ على قطب الشريف رحمه الله، وأخ ثان استأذنته فى نشر اسمه فلم يأذن. قال رضى الله عنه ما هذه المناجاة التى كتبت ؟ ألا تعلم أنها حجة عليك ؟ قلت: بلى.. وإنى على الوفاء بها لقادر إن شاء الله. قال: إذن فهى بيعة.. قلت: نعم. فقال: أفلح إن صدق. ثم قال: لا تنس الوصية، وكان كثيرًا ما يوصينى بوصية مكررة، وخاصة عندما أقدم له كتابًا، أو أى مجهود علمى. فقال الأخ على: ما هذه الوصية ولم يستأثر بها وحده؟ فقال رضى الله عنه : هى قول أبى هريرة رضى الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه. رجل استشهد، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها..؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت.. ولكنك قاتلت لأن يقال جرىء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى فى النار! ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن: فأتى به فعرفه نعمه فعرفها،فقال: فما عملت فيها..؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت.. ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى فى النار! ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال: فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها..؟ قال: ما تركت من سبيل يجب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت.. ولكنك فعلت ليقال جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى فى النار!) واليوم تتجدد هذه المناسبة، وأنا أعيد هذه المناجاة، وأسجل تلك الوصية، فلعل فى ذلك تبصرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا واللحن يفهمه ذوو الألباب